د. عبدالحق عزوزي
يستحيل أن نتحدث عن مدن المغرب مثل فاس وطنجة ومراكش دون أن نلتفت إلى علاقاتها بالعلم والشعراء والأدباء والكتاب والمؤرخين؛ وهذا يحتاج إلى العديد من المجلدات لرصدها.....ففاس عرفت منذ القرون بجامعة القرويين التي تعتبر قديسة مدللة تحمل تاريخا قل نظيره في تكوين العلماء ونشر نور الفهم والتجديد عبر القرون ليس في المغرب فقط وإنما في العالم بأسره، وبدونها ما بقي الحرف العربي بالمغرب ولما ازدهرت الحضارة الإسلامية بهذه الديار، وماذا تكون فاس لو لم تكن بها هاته الجامعة؟ ولقد وجد المؤرخون في جدران هذه المؤسسة العظيمة، وفي كراسيها العلمية، وفي مرافقها العديدة الدالة، وفيما مر بها من رجال، وما شاهدته من أحداث، وما مر بها من ظروف وصروف، وجدوا في كل ذلك فصولا تختصر ترجمة السيدة فاطمة الفهرية (245هـ- 859م) التي بنت هاته الجامعة، وترسم الخطوط الكبرى لما يمكن أن يقال عنها... وقد قال ابن خلدون وهو يسجل مبادرة السيدة أم البنين قال: «فكأنما نبهت عزائم الملوك من بعدها» وهناك عدد من أعلام الفكر الموسوي والمسيحي والإسلامي كان لعلماء فاس أثر في تكوينهم وظهورهم، من أمثال: دراس بن إسماعيل 357هـ 968م وسيلفيستر359هـ 970م وأبو عمران الفاسي 430هـ 1039م وابن باجه 533هـ 1139م وابن العربي 543هـ 1149م وابن ميمون الحاخام 567هـ 1172م وابن طفيل 581هـ 1185م وابن رشد 595هـ 1198م وابن زهر 596هـ 1200م وابن سمعون (اليهودي) 623=1226 وابن بطوطة 770هـ 1368م وابن خلدون 808هـ 1406م وغيرهم ممن اشتهروا عبر القرون وفي كل الأمصار. وفي هذا الباب وتنافسا مع المدرسة المستنصرية ببغداد نرى جامعة القرويين تزداد بمدارس تحاكي الأحياء الجامعية التي يعتبرها العصر الحديث من حسناته، فبعد مدرسة الحلفاويين كانت مدرسة فاس الجديدة، ثم مدرسة الصهريج، ومدرسة العطارين، ومدرسة الوادي، ومدرسة الخصة، ومدرسة أبي عنان، وكل هذه المدارس تحتوي على قاعة للدرس... يختلف عليها أستاذان، لكل منهما أوقاف خاصة، وإلى جانب هذه الأحياء الجامعية كانت خزانة الملك أبي يوسف وأبي عنان من بني مرين، ثم المنصور السعدي، هذه الخزائن التي تكون اليوم (خزانة القرويين) ذات الشهرة العالمية والمليئة بالمخطوطات الثمينة التي لا توجد إلا فيها، ومنها أرجوزة ابن طفيل في الطب وأجزاء من إنجيل القديس لوقا ويوحنا... وإذا أردنا أن نتحدث عن مدن أخرى مثل طنجة فسنجد أنفسنا مع كتاب عالمين مشهورين تحدثوا عنها في دواوينهم ومذكراتهم ومؤلفاتهم، أمثال ويليام بوروز وترومان كابوتي ومارك توين وتنيسي ويليامز وبول بولز وجان جينيه، حيث يذهب بعض المهتمين بالتاريخ المعاصر إلى القول إن (طنجة مدينة صنعها الأدباء والميناء)؛ وكذلك الحال مع مدينة مراكش، حيث تحول عدد من الكتاب والفنانين إلى حراس للتراث لمدينة استهوت، على مدى تاريخها المعاصر، الكتاب، كما سحرت الفنانين، فأرخوا لمرورهم منها. فهناك مبدعون عالميون قدموا إليها من شتى بقاع العالم، ومن مختلف مجالات الإبداع، لقدرتها على أن توفر لهم جواً مناسباً لتفجير المخيلة، وأن تحرض في داخلهم فرص الإبداع الراقي. مبدعون عرب وغربيون، هاموا بها، فأعطوها من رحيق إبداعاتهم بقدر ما أعطتهم من سحرها ودفئها: من السوري أدونيس والعراقي سعدي يوسف، إلى الإسباني خوان غويتصولو والألماني هانس فيرنر غيردتس، وقبلهم الفرنسي جاك ماجوريل والألماني إلياس كانيتي والفرنسي كلود أوليي، من دون نسيان الحديث عن عشاق آخرين، اختاروا الإقامة والاستثمار الثقافي بها، أمثال الهولندي بيرت فلينت والأمريكية باتي كود بي بيرش والسويسرية سوزانا بيدرمان إليوت والفرنسي إيف سان لورا؛ والشاعر الإماراتي الكبير الدكتور مانع سعيد العتيبة...
ومراكش مدينة ساحرة حيث لا يمكن أن تأتي إليها دون أن تراودك فكرة الاستقرار فيها؛ لذا يستوطنها اليوم شخصيات عالمية بالآلاف، وهم من أجناس وطبقات وديانات وتوجهات فكرية واجتماعية مختلفة؛ نعم إنها مراكش التي سبق أن كتب عنها محمد بن عبد الله الموقت (1894 - 1949)، في كتاب (الرحلة المراكشية): (إن أول مظهر من مظاهر جمال الطبيعة الذي يشاهده الوافد على هذه العاصمة المراكشية تلك الابتسامات الدائمة التي يراها مرسومة في ثغر كل منظر من مناظرها الخلابة وفي وجوه جميع سكانها وأهاليها بل في طلعة كل ما تضمه جدرانها، وتحيط به أركانها).