د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
مضى عام منذ رحلت عنا في يوم الخميس 14 شوال 1444هـ، أُخْبرت صباح ذلك اليوم أن أوسًا سيأتي، نزلت إلى فناء الدار لملاقاته، لا بدّ أن ما جاء به أمر جلل؛ إذ لم يهاتفني، وليس من عادته الحضور هذا الوقت من النهار، دخل متوجهًا نحوي كاسف البال بادي القتامة، قلت له ما بكم؟ قال وهو يمسك بي: أنا وأبنائي بخير، اجلس.
جلست فترفق بي، وهو ينوء بالخبر الذي وافته به ابنتي الحبيبة ديمة، بكيت بكاءً مرًّا، وحاول ابني مواساتي وهو يجاهد آلامه؛ ولكنه تجلّد وتجمّل من أجلي، وكانت ديمة في غاية الحكمة حين اتصلت به لا بي، ألم الفراق يُحس ويُدرك ولكن التعبير عنه مهما سُوّدت صفحات وصفه يقصر دونه، كأن هذا أمس، مضت سنة كلمح البصر كما مضت حياتنا معًا كلمح البصر، كأنه أمس يوم لقيتك في القسم عند الدكتور أحمد مرسي فلقيت بك حياة جديدة، كانت من أعظم نعم الله عليّ، مضت تلك السنوات ولكنها ماثلة في ذهني، تطوف بي لحظاتها الحلوة والمرة، يوم التقينا مرة أخرى في معرض الكتاب وقضينا نهارنا نفلي المكتبات نبحث عن كتب اللغة، كيف أنسى الطريق الزراعي في الجيزة المؤدي إلى كبري المرازيق، وذهابنا إلى المنصورة وطنطا نسأل عن مكتبة، فزوّرنا شاب مسجد السيد البدوي وأرادنا أن نطوف فلم نفعل، ثم عزمنا في ناديهم الاجتماعي وعلمنا أنه مسيحي، وسافرنا غير مرة إلى الإسكندرية وتشاجرنا هناك، ثم عدنا والصمت يلجم أفواهنا؛ ولكن لم ندخل القاهرة إلا ونحن نضحك كما لم نضحك من قبل.
الآن أحسست بثقل الحياة بعد أن رحلت ورحلت معك البهجة وطعم كلّ شيء، نعم لم تكن حياتنا وادعة في كل حين؛ إذ كنت كالبحر بمده وجزره بهدوئه وسكونه أحيانًا وبأمواجه المتلاطمة أحيانًا، تجادلنا مرة وارتفعت أصواتنا حتى أخفنا ابنتنا الحبيبة ديمة ففزعت تستطلع الأمر، فقلنا لها نحن نتشاور لا نتشاجر، قالت منكرة: ولكنكم تفعلون ذلك بقوة. كنت أضيق كثيرًا بكثرة علاقاتك الاجتماعية والدعوات التي لا تنقطع، فأبيت مرة السماح لك بالذهاب فغضبت غضبًا شديدًا، وطلبت مني الطلاق، قلت لك سأفعل؛ ولكن بعد أن تنهي الفصل الدراسي، وبعد يومين بلغتني أنك تتراجعين عن طلب الطلاق، كانت الأولى والأخيرة.
مضت سنة وستمضي الأيام ما شاء الله لها أن تمضي من فسحة الأجل؛ ولكن تفاصيل حياتنا التي عشناها ماثلة أمام عيني، دعواتنا التي تنظمينها وتديرينها باقتدار في منزلنا ما زالت في الذهن دعوات العلماء وغير العلماء، عبدالرحمن أيوب، وعلي أبو المكارم، وكمال بشر، وحسن ظاظا وصبحي عبدالمنعم وغيرهم، ورحلاتنا إلى أبها ومكة والقصيم والمنطقة الشرقية والبحرين والإمارات والكويت كثيرًا، كلها تعاودني ذكراها. لا أنسى مناقشاتنا عن الدروس والبحوث والطلاب والطالبات.
قبل رحيلك كنت أعلم أن المتوفى تفارق روحه جسده، ولكن أنت فارق جسدك الطاهر روحك، وبقيت روحك تحوطنا وترعانا، وأنا في البيت الآن أراك في كل مكان، أرى كل ركن فيه يذكرني بك، كتبك في مكتبتنا، أوراق طالباتك، كتب أهديت إليك، أقلام كنت تكتبين بها وكراسات سودت فيها صفحات تأملين تحريرها وقيدت أفكارًا كنت تأملين أن تكتبي عنها. بقايا الزينة التي علقتها تحتفلين باليوم الوطني، وكنت أكثرنا احتفاءً واحتفالًا بالأعياد والأيام، والحق أن أيّامك كانت أعيادًا.
سألتني إحدى بناتنا أتزورك في الحلم؟ قلت لها كثيرًا. كانت حياتنا قبل رحيلك وبعده سلسلة من الأحلام.
رحلت وتركتني في فراغ كفراغ الكون لا يمكن بحال أن يملأ، وخسارتي لا يمكن أن تعوض، وفقداني لا يمكن أن يخلف، ليس شيء أشد من ألم الفراق ولا أقسى منه، ولكني أعلم علم اليقين أن استغراقي في الحزن لن يرضيك، وأن مكابدتي تؤذيك، وما كتبت اليوم إلا كما كتبت بُعيد رحيلك (مداخلة لن تقرئيها) فكذلك هذه لن تقرئيها.