أ.د.صالح معيض الغامدي
عنوان هذا المقال هو عنوان مقتبس لورشة دولية افتراضية عقدت في الجامعة برلين الحرة في 13-14 نوفمبر عام 2020م حول السيرة الذاتية، وقد جاء هذا العنوان المفارق الذي قد يحمل قدراً من السخرية (على الأقل من وجهة نظري) للورشة عاكساً توجهها الرئيس وهو القول بأن السيرة الذاتية وجدت قبل التاريخ الذي حدده لها المؤرخ السويسري ياكوب بوركهارت ( 1891-1984) الذي جعل ولادة السيرة الذاتية خلال عصر النهضة، وذلك في سياق اكتشاف الفرد والفردانية والاحتفاء بالذات.
وقد ورد في الإعلان عن الورشة ما سأنقل ترجمته هنا تلخيصاً، ومفاده أن قلة من الدارسين اليوم هم من يتبنون هذه السردية الرئيسية البوركهارتية بشكل كامل. فالمتخصصون في دراسة العصور الوسطى يفترضون وجود شعور بالذاتية الفردية في وقت مبكر جداً، في العصور الوسطى المتقدمة. ونظراً لأن العديد من منظري الأدب في مجال السيرة الذاتية يتبنون تعريفاً ضيقاً للسيرة الذاتية يركز على نمو الشخصية وتطورها وعلى الذاتية الانعكاسية، فإن النظرية الأدبية تستبعد من تاريخ السيرة الذاتية معظم ما كتب قبل القرن الثامن عشر. وخلافاً لذلك، فقد سعى المؤرخون الثقافيون ومؤرخو الحياة الخاصة االجدد إلى استعادة الأشكال المهملة من الكتابة الذاتية التي لا تتناسب مع التعريفات الحديثة للنوع الأدبي للسيرة الذاتية مثل كتب الحسابات، أو اليوميات شبه المكتوبة، أو التقاويم الفلكية، واقترحوا مصطلحات جديدة مثل «كتابة الحياة»، «والوثائق الذاتية»، «والشهادات الذاتية» لتجنب الآثار الغائية للسرد البوكهارتي الكبير، ولإدراج النصوص التي أهملها التاريخ الأدبي التقليدي للسيرة الذاتية. واستناداً إلى هذه المراجعة النقدية التصحيحية لمفهوم السيرة الذاتية وتاريخها، فإن نماذج السيرة الذاتية العربية القديمة ستحتل مكانة مرموقة في هذا التصور الجديد لتاريخ السيرة الذاتية.
وقد نص إعلان هذه الورشة على أنها تهدف إلى جمع المؤرخين ودارسي الأدب الذين يشتغلون على مجموعة واسعة من أشكال الكتابة الذاتية في أواخر العصور الوسطى وأوائل الحداثة والتي تتحدى الأفكار ما بعد الرومانسية الأكثر شيوعاً حول السيرة الذاتية، مثل: كتب العائلة، وكتب العقل. والتقاويم والسير الذاتية الحرفية، ولكن أيضاً المقدمات والهوامش وغيرها.
وأظن أنه سيتحتم الآن على النقاد العرب الذين أخذوا سردية بوركهارت من الغرب بوصفها السردية المعيارية الصحيحة الوحيدة لمفهوم السيرة الذاتية وولادتها أن يعيدوا النظر في موقفهم هذا، بعد أن ثار عليه الغربيون أنفسهم، وأن يهتموا بالنصوص السردية السيرذاتية العربية القديمة بكل أشكالها تحقيقاً ودراسةً ونقداً.
وكنت قد كتبت مؤخراً التغريدة التالية في منصة (اكس)، لعل من المناسب إيرادها هنا خاتمة لهذا المقال :
«ما زلت مستغرباً من بعض النقاد العرب الذين يقللون من قيمة السير الذاتية العربية والإسلامية التي لا تتبع أو تقلد النموذج السير الذاتي الغربي، أو تسير في أفقه، في الوقت الذي نجد فيه أن نقاد الثقافات الأخرى غير الغربية مثل الهندية والصينية وغيرهما يفاخرون بنماذجهم الخاصة في كتابة السيرة الذاتية، أو على الأقل يقدرونها. ومن المفارقة أن بعض هؤلاء النقاد العرب الذين يصرون على ضرورة التزام النموذج الغربي في كتابة السيرة الذاتية، (أو اتخاذه معياراً للحكم على جودة السيرة الذاتية العربية)، لا يعلمون أو يتجاهلون أنه حتى في الغرب جرى ويجري التنكر للنماذج الغربية التقليدية للسيرة الذاتية وتقويضها كما نرى ذلك عند بعض النقاد أمثال بول دي مان وجاك دريدا».