د.أمل بنت محمد التميمي
في يوم الخميس 18 يناير 2024 زرتُ المعهد العالي للفنون المسرحية بالقاهرة، وكان في استقبالي الدكتور مدحت الكاشف، وحضرت مع سعادته مشهد من مسرحية لطلابه بعنوان (ليلى والمجنون) لصلاح عبد الصبور بطولة محمد على ونيرمين أبو الوفا، الجانب الجمالي في الزيارة أنني قابلت شخصيات رائدة في المسرح العربي في المعهد، وجميعهم يتطلعون إلى زيارة المملكة والمشاركة في مهرجان المسرح السعودي من جراء ما سمعوا عن تجربة د مدحت الكاشف، وبعضهم يتطلع إلى التدريس والتدريب في السعودية في مجال المسرح، هذه النظرة الشغوفة والمتأملة في الإسهام بالحركة المسرحية في السعودية ذات قيمة كبيرة؛ لأنها تصدر من أصحاب تجربة عريقة في المسرح، وجميل أن تكون السعودية وجهة الفن المسرحي في الفترة الحالية، ووفق رؤية المملكة وأهداف هيئة المسرح والفنون الأدائية.
وأثناء نقاشنا عن تجربة د مدحت الكاشف في مشاركته في مهرجان الرياض للمسرح ديسمبر 2023 في نسخته الأولى، فكان رأيه مبهورا بمستوى الفن المسرحي في السعودية، ولم أتفاجأ برأي أستاذ مثل الدكتور مدحت الكاشف بعد زيارته إلى المملكة حيث يقول: «الرياض في ثوب جديد بهي كنت قد زرتها من خمس وثلاثين عاما.. ولذا كان انطباعي عن الرياض الجديدة انطباعا أثيرا... أنا الآن أمام مجتمع جديد قدر تمسكه بعبق الأصالة قدر سعيه نحو المستقبل بخطى حثيثة مدروسة وفق خطط طموحه لنقل الرياض بل وكل أنحاء المملكة العربية السعودية مترامية الأطراف متعددة الثقافات... لتخلق ثراءا ثقافيا يمنح بدوره فرصة الإبداع.. وهو ما لمسته في تجارب مسرحية ذات مذاق خاص خلال مهرجان الرياض للمسرح ديسمبر 2023 والذي شرفت بالمشاركة فيه كعضو لجنة تحكيم للنسخة الأولى من مهرجان ولد عملاقا من حيث التنظيم واختيار العروض المشاركة واللقاءات الفكرية المصاحبة.... ومن هنا أتطلع لمستقبل أكثر روعة وإبداعا خلال سنوات قليلة قادمة».
وحينما شاركته عنوان رسالة الدكتوراه التي سوف أناقشها في آخر يناير 2024م عن (التجريب في المسرح السعودي الفصيح: دراسة إنشائية)، فذكر كلام كثير عن المسرح السعودي بإعجاب، ومن ضمن قوله: «رغم الإرث المسرحي لممارسات المسرحيين الأولين في شتى بقاع المملكة إلا إنه الآن يتميز بالتجريب والدخول في مناطق إبداعية غير مأهولة من قبل ولذا استبشر خيرا بجيل المسرحيين من الشباب».
وبعد عودتي من القاهرة ناقشنا يوم الاثنين 17 رجب 1445ه الموافق 29 يناير 2024م، رسالة الطالب جابر بن محمد النجادي بعنوان الرسالة (التّجريب في النّص المسرحي السعودي الفصيح: دراسة إنشائية) بإشراف سعادة الدكتور محمد عبد العزيز الفيصل، وأعضاء اللجنة المتكونة من الباحث، وأمل التميمي وبمشاركة الزميل سعادة الدكتور صالح بن عبد الله التويجري. في قسم الأدب والبلاغة والنقد بكلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وتشرفنا بحضور الأستاذ سلطان البازعي رئيس هيئة المسرح والفنون الأدائية، فحضوره أكبر دعم للطالب وللمسرح ولنا. وكذلك سعدنا بحضور الدكتور مدحت الكاشف وجمع مبارك من أساتذة وطلاب الدراسات العليا وأقارب الباحث نفع الله به وبعلمه.
وفي وصف الرسالة الأكاديمية تقع الرسالة في (352 صفحة)، وتتكون من مقدمة وتمهيد وخمسة فصول وخاتمة، ومن حيث العنوان الرئيس والفرعي يتضح موضوع الرسالة ومنهجها، فمضوعها التّجريب في النص المسرحي السعودي الفصيح، ومنهجها المنهج الإنشائي. وتستبعد النص العامي وكذلك الأداء المسرحي للنص المكتوب والمخطوط، رصد الباحث تفاصيل التجريب المسرحي في العتبات النصية، والبناء المسرحي، والتجريب اللغوي، وكذلك التجريب الأسلوبي والجمالي، وتناول التجريب وتداخل الأجناس بالقصة والسيرة، وتحمد للباحث أن الرسالة كتبت بلغة علمية رصينة. تعرفت من خلالها على شخصية الباحث والأستاذ المشرف.
استفزت الرسالة شغفي البحثي في المسرح، فأوّل سؤال سألته ما هي الفترة التي درسها الباحث، فأقدم نص اختاره لرجاء عالم يعود إلى عام (1987م)، وباستثناء نصوص عبد الرحمن المريخي التي بدون تاريخ، وكذلك نص غازي القصيبي (هما) الذي وثق بدون تاريخ، وتم النشر لأول مرة في 1 يناير 1997م، فإن جميع النصوص المختارة تقع فيما بين (2000-2021م)؛ أي بمعنى أن نتائج الدراسة ستطلعنا على التجريب في المسرح السعودي بعد الألفية الثالثة وكيف تطورت أدبية النص المسرحي السعودي خلال عقدين مقارنة بالمسرح السعودي في القرن العشرين الذي مهد له بالتمهيد وأطلعنا على وضع المسرح السعودي في تلك الفترة، ودراسته أبرزت أساليب التجريب وأدواتها.
سؤالي عن الفترة التاريخية للدراسة؟ حتى يتضح لنا من خلال المنحنى التاريخي رصد بعض الظواهر في التجريب في المسرح السعودي وكيف تشكّل ذلك؟ وما العوامل التي أسهمت في ظواهر التجريب في كل مرحلة عن الأخرى. وتحديد الفترة التاريخية مع مطلع الألفية الثالثة ليصبح لدينا تصور عن التجريب في المسرح السعودي في عشرين عاما ومدى اختلافه عن السابق؛ لأن أقدم مصادر الباحث تقريبا يعود إلى عام 2001م، وأحدث نص عام (2021م)، وإن وجدت نصوصا قديمة نوعا ما لرجاء عالم يعود إلى عام (1987م) فما أهمية وجود هذه النصوص القديمة وماذا يميزها عن الجديدة، وهل كانت في وقتها فيها ملامح التجريب أو قيل عنها أنها من النصوص التجديدية وتخالف المألوف؟
الباحث أورد تعريفات عديدة للتجريب وانطلق من هذا المعنى «حتى تدرك السائد وتسعى إلى تجاوزه». فما هو المألوف في النص المسرحي السعودي، وما هي ملامح التجريب؟
استعرض الباحث الشكل التقليدي للمسرح السعودي منذ أول نص مسرحي سعودي عام 1352هـ 1932م وهو نص (الظالم لنفسه) لحسين سراج، وكان يشير إلى أشكال التجديد خلال الاستعراض التاريخي ومن بعض مظاهر التجديد في الاستعراض التاريخي لنص المسرح السعودي تتمظهر في الوصف والبعد النفسي وتقنية الميتا مسرح، أما عن أهم مظاهر التجريب في عينة الدراسة فأوجزها الباحث في اتجاهين، هما: الأول يميل إلى التراث، والثاني يحمل ملامح ما بعد الحداثة.
واستوقفني كثيرا التجريب في عنونة النصوص المسرحية السعودية الفصيحة من خلال العينة المدروسة وحصرها في أربعة أنماط للعناوين الخارجية، وهي: عناوين المفارقة مثل (المزبلة الفاضلة) لعباس الحايك و(الحرب حبًا) لياسر مدخلي، و(أنا لست أنا) لعبد العزيز الصقعبي، والعناوين الرمزية مثل (عصف) لفهد ردة الحارثي، و(الأرشيف) لمحمد العثيم، و(عزف اليمام) لياسر مدخلي، و(القرية تخلع عباءتها) لعبد العزيز الصقعبي، و(سفر الهوامش) لفهد ردة الحارثي، و(البطيخ الأزرق) لمحمد العثيم، وعناوين العدد والرقم مثل (الجثة صفر) لفهد ردة الحارثي، و(الثقب أو رصيف7) لصالح زمانان، و(واحد صفر) لعبد العزيز الصقعبي، و(الموقوف رقم80) لعباس الحايك، والعناوين ذات اللغة الأجنبية، مثل (كونتيز) لعباس الحايك، و(السيمفونية) و(سكيزوفرينيا) لشادي عاشور، و(لونكس) لعبد الرحمن المريخي، و(زازات) لعبد الله عقيل، بالإضافة إلى تناول التجريب في العناوين الداخلية التي لجأ إليها الكُتاب بعد أن كانت تدوين بأرقام أو لوحات أو مشاهد.
الدراسة منجم تستفز الباحث الشغوف بالمسرح لطرح التساؤلات وتفتح مجالات عديدة للبحث، فوجدت نفسي أسأل عن عدد كتّاب المسرح السعودي الذين اختارهم الباحث والذين أعطوا ملامح جديدة للمسرح السعودي؟ فمن خلال تعميق النظر في العينة التي تم اختيارها في قائمة المصادر حاولت أعمل إحصائية، وذهبت مع الرسالة أتعمق وأعد وأدون، ولم تكن العملية سهلة لأن الباحث استخدم نظام التوثيق بعنوان الأعمال بحسب التسلسل الأبجدي، وأحيانا يوثق نصوص مسرحيات حصلت على جوائز فتضم أكثر من كاتب، أو نصوص نشرت في مجلات (نصوص مسرحية)، وجذبتني الرسالة إلى استكشاف مجالات جديدة تضيف إلى المسرح السعودي الكثير والكثير. فوجدت أن الباحث اختار تسعة عشرة كاتبا وكاتبة من بينهم أربع سيدات وهن (رجاء عالم – ملحة عبد الله – وفاء الطيب- سهام العبودي) فيمكن بعد هذه الإشارة يخرج الباحث بنتيجة عن التجريب المسرحي عند المرأة السعودية وهل يختلف عن الرجل؟ كما أسلفت الرسالة تستفزك لطرح التساؤلات، وتكتشف من خلال التحليل العميق غزارة الإنتاج المسرحي السعودي.
إن مجموع الأسماء التي تم دراسة نصوصها سأوردها كما جمعتها فإن أغفلت كاتبا أو كاتبة فمني وليس من الباحث (عبد الرحمن المريخي – محمد العثيم – فهد ردة الحارثي- يحي العلكمي – إبراهيم الحارثي – رجاء عالم- عباس الحايك-صالح زمانان - سامي الجمعان – عبد الله عقيل – شادي عاشور- عبد العزيز الصقعبي – ياسر مدخلي – ملحة عبد الله – وفاء الطيب – عبد العزيز إسماعيل – غازي القصيبي – سهام العبودي – عبد الرزاق بن عطية).
تناول الباحث عدد كبير من المسرحيات بالتحليل المفصل واستشهد بها بحسب ما يناسب رسالته في فصولها الخمسة، وتدهشك بعض الأعمال المسرحية في آليات التجريب فيها مثل مسرحية (المزبلة الفاضلة) لعباس الحايك، فتقوم أحداث هذه المسرحية في حاوية نفايات يجتمع فيها مجموعة من الأشخاص، ومسرحية (الجثة صفر) لفهد ردة الحارثي، تشير أحداث المسرحية في بدايتها إلى جثة ملقاة على الطريق، وتناول الباحث ما يقارب ست كتب للكاتب فهد ردة الحارثي وتضم الكتب أعمال مسرحية كثيرة، وهي على سبيل المثال: (بعيدا عن السيطرة – الجثة صفر – كنا صديقين – لعبة الكراسي ومسرحيات أخرى – نصوص مسرحية – يوشك أن ينفجر).
والكاتب فهد ردة الحارثي كان له نصيب الأسد في صور التجريب التي وردت في الرسالة لكثرة آليات التجريب عند الكاتب، وقد يكون السبب غزارة الإنتاج للكاتب نفسه ومحاولته التجريب في كل مرة بشكل مختلف، كما أبدع فهد ردة الحارثي في التجريب وتداخل الأجناس من خلال النصوص المسرحية التي حضرت فيها القصة والسيرة الغيرية، فيذكر الباحث أن الكاتب فهد ردة الحارثي يقف في طليعة الكتاّب الذي غلب على نصوصه هذا النمط من الكتابة الفنية كما في مسرحية (بعيدا عن السيطرة) حيث يدخلنا الكاتب في مجموعة من الحوارات القصصية المتوالية والمتعددة التي تقترب من جنس القصة منها إلى المسرح (ص296). كما تندرج المسرحية ضمن مسرحة السيرة بشكل صريح وواضح في المقدمة وبمثابة ميثاق مباشر، فالميثاق الأجناسي حاضر في المقدمة (ص317). بالإضافة قدم الكتّاب في المدونة المدروسة نصوصا مونودرامية تقترب من القصة القصيرة محققة لطبيعة الشخصية الواحدة.
وقد أوصى الباحث استكمال مسيرة عمله بدراسات نقدية توظف المناهج النقدية المختلفة تستثمر فيه النتاج المسرحي السعودي الغزيز، وكذلك دراسة فن المونودراما بوصفه شكلا من أشكال التجريب في المسرح، كما أوصى الباحث بعمل موسوعي يقوم بالتعريف بالكتّاب المسرحيين السعوديين وأعمالهم.
وطالما درس الباحث النص المسرحي الفصيح، وبدوري أقترح أيضا دراسة التجريب في النص المسرحي المخطوط والعامي باللهجات السعودية، بالإضافية إلى دراسة آليات التجريب في جميع مكونات المسرح مثل السينوغرافي، والجمهور، والممثل.
وأختم بجملة أعجبتني في تمهيد الدراسة يقول فيها الباحث: «ينبغي أن تكون هذه الأعمال واعية بآليات التجريب وأسسه، وقادرة على التجاوز، ولتحقيق ذلك قد تخضع إلى طرق علمية وأدبية، كالمختبرات المسرحية، وورش العمل، والتدريب».
إن دراسة جابر النجادي الأكاديمية يمكن أن تقدم لنا فكرة إقامة (المختبرات المسرحية) الأكاديمية، والدراسات الأكاديمية الرصينة قادرة على أن تضع المسرح السعودي في مكانه من خلال (التجريب في المختبرات المسرحية) ويكون له وضعه المرموق في التجارب العالمية. وبالدراسة الأكاديمية يمكن نحت مصطلحات جديدة من التجربة السعودية لها طابعها الخاص في التجريب كما في المسارح العالمية التي أوجدت (مسرح اللامعقول، والعبث، والمسرح الفقير، ومسرح القسوة، والمذاهب التعبيرية والرمزية والملحمية، وتقنية الميتا مسرح، والمونو دراما...إلخ)
ونختم بما بدأنا به، ومن خلال نقاشنا الطويل مع د مدحت الكاشف على اشتغالنا القادم للمسرح السعودي تحدثنا عن التوأمة الأكاديمية التي تدرس المسرح بثنائية بين أقسام اللغة العربية وآدابها وأقسام المسرح في كلية الفنون التي أنشأت مؤخرا في جامعة الملك سعود، ورؤيتنا القادمة إلى إنشاء (المختبرات المسرحية) التي تتأسس في الجامعات وتحت إشراف هيئة المسرح، وفي هذا الجانب قال الكاشف: «الأمر مبشر ولكن يحتاج إلى تأسيس علمي منهجي يكون أكثر تركيزا على الممارسة المسرحية وليس المسرح كأدب فقط... لابد وأن تتجاوز المرحلة هذه إلى دراسة حرفية الكتابة المسرحية من جانب ودراسة التحليل النقدي للنصوص والعروض المسرحية من جانب ثاني. وفي مرحلة لاحقة لابد أن تزداد جرعة الدراسات العملية والتطبيقية لفنون المسرح.» فالقادم بإذن الله. (المختبرات المسرحية) والنهوض بحركة النقد المسرحي، ودراسة النجادي فاتحة خير لدراسات متتالية.
** **
- استاذ الأدب والنقد بجامعة الملك سعود