د.نادية هناوي
أنجز مارسيل بروست (1871 - 1922) كتابه( المسرات والأيام) عام 1896 ويتألف من قصص وقصائد نثر وبعض المعارضات وأفكار أخرى متفرقة ركَّز في بنائها على الفصل والوصل كتقليد قديم اتبعه السرد الأوروبي، تأثرا بالتراث العربي. وتتألف كل قصة من مقطع أو أكثر، فقصة بوفار وبيكوشيه مثلا تتكون من مقطعين: 1/ المجتمع المخملي و2/ هواية الموسيقى. وعلى تقليد الفصل والوصل أيضا ألف بروست رائعته( البحث عن الزمن المفقود) -وليس كما ذهب بعض النقاد من أن بروست بنى روايته على وفق هندسية الكاثدرائية- وما بين الفصل والوصل ذاكرة تريد أن ترمم نفسها من الضياع والنسيان، يقول اندريه موروا في تقديمه لهذه الرواية:( ليس من مجموعة روائية في الفترة الممتدة من 1900 الى 1950 اكثر التصاقا بالذاكرة من تلك التي عنوانها البحث عن الزمن المفقود. لا لان آثار بروست عملاقة كمثل آثار بلزاك.. إذ اكتفوا باستثمار عروق معروفة حين كان بروست يكتشف مناجم جديدة .. أما أحد أكثر الجوانب أصالة لدى بروست فهو على العكس لا مبالاته باختيار المواد فأقل اهتمامه هو بفعل الملاحظة، وأكثره بطريقة يلاحظ بها كل فعل وهو يقوم بمثل بعض فلاسفة عصره بثورة كوبرنيكية بالمقلوب فيعود الفكر الانساني ليلقي ذاته في مركز العالم ويصبح عرض الرواية وصف الكون الذي يعكسه الفكر ويشوهه).
وهذه هي الحرية التي يجسدها فعل السرد منذ أقدم العصور، واكتشفته شهرزاد فكانت حكاياتها منفصلة وهي تجتمع داخل إطار واحد فتبدو متصلة. وتساءل موروا: إلى أين يفضي هذا الباب الوحيد الذي يمكن قرعه دون جميع الأبواب التي لا تفضي إلى شيء والذي ربما بحثنا عنه دون جدوى على مدى مئة عام نصطدم به دون علم منا فينفتح ؟ وأجاب انه ينفتح فجأة مع أي كتاب له مثل طول ألف ليلة وليلة.
وعبّر بروست نفسه عن الحرية التي وجدها في السرد بأنها متعة تأتي من هذا الميل إلى كل ما هو قديم، قائلا:( نحن نحب دائما أن نخرج قليلا من ذواتنا أن نسافر عندما نقرأ الأعمال القديمة .. أنها تنطوي على جمال آخر أكثر إثارة من حقيقة أن أهميتها نفسها أقصد اللغة التي كتبت فيها أشبه بمرآة للحياة.) بهذا امتلك بروست أفقا معرفيا به وعى ما للتراث الإنساني من غنى، يمنح السارد حرية في الانتقاء والأخذ. وبهذا سبق بروست مجايليه الذين أرادوا أن يطوروا السرد عبر اتخاذ الواقعية قاعدة وعليها يبنون قصصهم، فكان أن عاد هو إلى القاعدة التي هي اللاواقعية ليجد فيها حريته.
وعلى الرغم من هذه العودة، فإنها كانت ابتداعا وتحديثا في السرد الذي كان سائدا في زمانه، فألف روايته( البحث عن الزمن المفقود). وتبدأ أحداثها بداية لا واقعية، وقد شطر الزمان كيان السارد البطل إلى شطرين مذكر ومؤنث. ويتصاعد السرد غير الواقعي، وقد انتقل البطل بشكل مبهم عبر قرون من الحضارة فتشكلت ( شيئا فشيئا ملامح أناي الأصيلة.. وغالبا ما لا يميز ارتيابي في المكان الذي أنا فيه بين مختلف الفرضيات التي تؤلفه أكثر مما تفرق، إذ نرى حصانا يجري بين الأوضاع المتتالية التي يوضحها لنا الكينوتوسكوب) وفسر جيرار جينيت اللاواقعية في هذه الرواية باللعب فهي( رواية للزمن المقهور المسبي المفتون المدمر سرا، بل المحرف فكيف لا نتحدث بصدد هذه الرواية،، عن اللعبة الهائلة التي نلعبها مع الزمن) واحتج جينيت لرأيه هذا بأن افتتاحية الرواية هي( تجربة تعرية ذات بنية معقدة تحاكي صعوبة البداية المحتومة حتى تتغلب عليها خير ما يكون التغلب موجودة على ما يبدو في التقاليد الأكثر عراقة وثباتا .وقد سبق أن لاحظنا انطلاق ملحمة الإلياذة انطلاقا منحرفا).
وتتردد في ذهن البطل مونولوجات حرة فيها صور غير ممكنة ولا طبيعية. وبالتدريج تتحول الصور والمشاهد غير المعقولة إلى واقعية بما يكتشفه السارد من خفايا، فيعرف أن ما يراه مجرد أوهام، وأن ما يحصل معه باطل وما من صحة له. وتؤدي تقانة التداعي الحر دورا مهما في تسويغ هذا التحول من اللاواقعية إلى الواقعية( أحسست أني بالحقيقة أدخل بين صخور من البنفسج برصيف صخري من بحر الهند وكنت ظننت الامر حتى ذاك مستحيلا.. وشعرت بتحرر من حاجات جسد خارق يجري في داخلي ما لبثت أن رافقته رغبة مبهمة في الايفاء من تلك التي تحس بها إذا اتفق أن أصابك ألم شديد في الحنجرة)
ويمضي السارد واقعا تحت تأثير تيار الوعي إلى نهاية الرواية فيغدو سرده واقعيا وهو يخبرنا كيف تعلم من أشجار السنديان الضخمة أن التناقض القائم في البحث داخل الواقع عن لوحات في الذاكرة. فبروست يدرك أن التجديد في السرد لا يكون بالقفز على قاعدته التي هي اللاواقعية، بل هو بالالتصاق بها أكثر. فكسب بذلك الكثير، لأنه أجاد في توظيف تيار الوعي كوسيلة بها يعرف ثبات القاعدة ولأنه نجح في إعادة الاعتبار إلى هذه القاعدة التي نظر إليها غيره على أنها قديمة وبالية، مؤكدا أن ما من أساس للسرد سوى اللاواقعية التي ستبقى هي جذره الأصيل.
ولا مراء في أن تيار الوعي تقانة طبقها روائيون آخرون بعده مثل جيمس جويس وفرجينيا وولف ووليم فوكنر، غير أن كل واحد منهم اتبع طريقته الخاصة في توظيفها. وإذا كان بطل بروست في( البحث عن الزمن المفقود) يعاني انفصاما داخليا، فإن بطل وليم فوكنر يعاني عوقا ذهنيا في روايته( الصخب والعنف) الصادرة عام 1929. وهذا العوق هو الذي سمح للكاتب أن يرتكز بقوة على القاعدة اللاواقعية تاركا الخيال يسرح بحرية على لسان بنجي.
وعلى الرغم من أن هذه الرواية متعددة الأصوات بسراد أربعة هم: بنجي وكونتن وجاسن وكادي، فإن القصد التأليفي يشير إلى وجود بعد أخلاقي تعكسه الرواية من خلال هذا التصارع بين الشرف والانحطاط أو السمو والرذيلة. ووفقا لأدبيات علم السرد ما بعد الكلاسيكي وبخاصة علم السرد المعرفي فإن هناك مقاصد وغايات تدل عليها أنظمة وإشارات واستراتيجيات يصنعها العقل من خلال الحوار كأهم تقانة استعملها فوكنر وراهن عليها في تحبيك السرد غير الواقعي وتصعيد واقعيته أيضا، فبنجي أو بنجامين المعتوه كان بلا قدرات معرفية ولكنه يتكلم ويعبر أدبيا بضمير الأنا عن مكابدات فيها إحساس واع بالذات سواء وهو طفل صغير أو وهو إنسان معاق. وكل ذلك إنما جرى بمساعدة المونولوجات الداخلية التي جعلت الكلام ممكنا والإحساس حاصلا بما كان يراه بنجامين وحده من أشكال براقة تتحرك أمامه وترافقه دوما. وتكرر هذه الأشكال البراقة أمامه مجددا( ثم نظرت إلى النار وتحركت الأشكال الناعمة البراقة ثانية)
وعلى شاكلة فوكنر في التركيز على تيار الوعي، عمل صامويل بيكيت في رواية(اللامسمى) الصادرة عام 1953 على جعل اللاشيء هو السارد بضمير الأنا كبطل لا كيان يدل عليه ولا مسمى يحدد هيأته. وتبتدئ اللاواقعية بوجود صوت لشيء غير محدد ولكنه يتكلم من موقع لا وجود له( أنا من يكتب أنا الذي ليس بإمكانه رفع يده عن ركبته أنا من يفكر بما يكفي حتى اكتب أنا الذي رأسه بعيد عنه تماما، ماتيو وأنا الملاك أنا جئت قبل الصليب قبل الخطيئة جئت إلى العالم إلى هنا ) ويستمر على هذه الشاكلة من التداعيات الحرة، وتناجي الأنا الساردة نفسها بنفسها كشخصية هي ذاتها الساردة والمسرودة معا.
ويتصاعد التحبيك حين تكشف الأنا عن نفسها محددة هيأتها تحديدا هندسيا( أنا كرة ضخمة ناطقة تتكلم عن أشياء غير موجودة أو موجودة ربما وذلك ما تستحيل معرفته ..ان أكون مدورا وصلبا بدلا من شكل غير منتظم يمكن تقعيره وتحديبه وفقا لصدفة التصادمات) وتصل الحبكة إلى ذروتها حين تضعنا الأنا أمام لغز وجودها كساردة يتلبسها سراد آخرون( تلك الأصوات لا تعود لي ولا هذه الأفكار إنما أعداء يقطنونني ويجعلونني أقول. ليس بإمكاني ان أكون وورم الحصين..لأنه لا يمكنني ان أكون) ويستمر هذا اللعب التلغيزي فتغدو الرواية عبارة عن أحجية تغلب عليها التعمية من بدايتها إلى نهايتها. وإذا كان للكاتب مقصد معين، فانه مقصد السخرية من هذا النزوع الروائي نحو الواقعية واشتراط الموضوعية في كتابتها.
وفي وضع العلامات وتكرارها نوع من التحدي لمدى قدرة القارئ على إعادة بناء القصة من خلال الخطاب، مما كان جيمس جويس في( يوليسيس) 1922 قد وظفه أيضا. ومن بعده وظفه فولكنر في(ابسالوم) 1936 وتيموثي فيندلي في(الكلمات الأخيرة الشهيرة) 1981 وغير ذلك كثير من الروايات التي تتطلب تأملا وتدقيقا في معرفة فنية وغائية ما يحدث وإعادة ترتيبه من جديد.