علي حسين (السعلي)
كتب ناقدنا الجميل الغذامي مقالاً جميلاً ومستفزاً وعنونه بـ(الهوية أو المصطلح المشكل) وتوقّفت كثيراً عندما كتبه نصًّا «أما الهوية من حيث النطق، فلدينا كلمة عربية قديمة وعريقة هي كلمة الهوية -بفتح الهاء-، وتعني البئر العميقة، وهذا ما تورده معظم المعاجم العربية، والإحالة للبئر العميقة تتصل دلالياً بأهم جذر في مفهوم الهوية، حيث هي عودة للأصل العميق للذات، سواء الأصل العرقي أم الديني أم القومي أم اللغوي أم الثقافي.. وأكمل... وهي في هذه الحال بئر ذهنية ذات عمق ذهني، والعمق الذهني أقوى من أي عمق خارجي..» هنا أشكل عليّ فهما بين الهوية والهوى فكتبت (وماذا عن الهَوَى؟ هل تقترب من المعنى الذي ذكر في مقال الغذامي؟!)
وكأني أستشف المعنى من ناحتين:
هوى للذات
هوى للآخر
وهنا ربما تقترب من البئر العميقة الخاص بكلمة الهوى
الشيء الدفين الذي لا يبين... ومما دعاني لذلك استدعاء بيت جميل لعنترة يقترب من معنى الهَوية والهوى بتفسير الغذامي بإحالتها إلى المعنى الذهني حين أسماها (البئر العميقة) والأعجب والأغرب أتى بمعنيين ذهني وخارجي يقول عنترة:
يدعون عنتر، والرماح كأنها
أشطان بئرٍ في لبان الأدهم
كأن الحبال متدلية في البئر والسقاة يتوافدون عليها من كثرتهم، وعمق البئر... ولو ما كانت البئر عميقة لما استدعاه عنترة أليس كذلك؟
وهنا يقترب ربما من معنى الهوية الذي ذكره شيخنا الغذامي بمعنى الذات مدح الشاعر نفسه والآخر حين يدعونه ينادونه عليه بإنقاذهم وهم في ساحة المعركة!
لذلك اختلف مع ناقدنا الغذامي من اختلاف المعنيين بين الهوية والهوى! من حيث إن الهوى هو مكنون سري داخل النفس لا يعلمه إلا آخر مخصوص بالهوى وقليل ما يظهر!
فهو من هذه الناحية مثل البئر؛ يكتشفه آخرون وقد لا يعلم عنه إلا من اكتشفه، وكذلك في أدبنا الشعبي بيت شعري أصبح مثلاً يقال ويغنّى خبيتيا:
نسيت مسواكي على بئر عسفان
عودت له من ساعتي ما لقيته
وفي شعرنا المعاصر يقول جاسم الصحيح:
نظرتُ إلى الحياةِ رأيتُ أُمًّا
تُرَبِّي الأرضَ رابيةً وسَهْلَا
وأبصرتُ الدروبَ دروبَ عُمري
متاهً يشبهُ الأمعاءَ شَكْلَا
وعَلَّمَني السقوطُ (ببئرِ نفسي)
بأنَّ الماءَ في الأعماقِ أَحْلَى
وفي هجاء الحطيئة لنفسه حين رأى وجهه على صفحة الماء قال:
أبت شفتاي اليوم إلا تكلما...
بسوء فما أدري لمن أنا قائله
أرى لي وجها قبح الله خلقه...
فقبح من وجه وقبح حامله
ولمحمود درويش ما يعزز ذلك حين قال:
أختار يومًا غائمًا لأمرّ بالبئر القديمة
ربّما امتلأت سماءً. ربّما فاضت عن المعنى وعن
أمثولة الراعي. سأشرب حفنةً من مائها
وأقول للموتى حواليها: سلامًا، أيّها الباقون
حول البئر في ماء الفراشة!
وفي سورة يوسف عليه السلام ما يشبه ذاك المعنى من البئر العميقة معنى ذهني وخارجي حيث يقول سبحانه وتعالى {قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ}.
ومما سبق تنجلي نظريتي حول أن الهوية تقترب من هوى الشعراء بمعنييها الذهني والخارجي من خلال استخدامهم كلمة البئر خارجياً وذهنياً في هجاء الحطيئة نفسه «قبّح من وجه وقبّح حامله» فهو للذات هويته وخارجياً لخلقته.
سطر وفاصلة
سأحلم بك عند صفحة بئرنا
أتذكرين
ذاك حرفي يرنو مختالا بسطرك
وامتاح سيدتي من شفاه فاصلتي
أتذكرين
حين غازلك شعري
وآهاتي
أشواقي
أنّاتي
وتناثر الأوّاه من صدر قافيتي
إلى نفث اسمي بحبرك