د. شاهر النهاري
الفضل مهما كان معنوياً، يجب أن ينسب لأهله تبعاً لأخلاق متنبئي الصحاري، من يعيشون فرساناً على صهوات الحروف الأصيلة النابضة، بكبرياء النخيل، ونقاء عين ساقية الحب تجري، مهما عصفت السماء، والتفت الزوابع، ومهما خفت بريق نجمة الظلمة.
أجول بفكري، وأشرد في زوايا مفصلية مرت حولي في سالف البدع والأوان، حين طلبت من الكاتب تركي الدخيل مساعدتي على نشر روايتي الأولى «بوح ونواح في قصة ضادية».
فكان أن أحالني لمدير مدارك للطباعة والنشر والترجمة حينها، الأستاذ وفيق وهبي.
تخاطبت معه في مقره بدبي، وما أن قرأ مسودتي، إلا وأظهر لي من الود أكثر مما كنت أتوقع، ومن التشجيع ما نفخ أوداجي وأذناي، وسطر لي من خلال بريده الكثير من عبارات التقدير والإكبار لما وجده، ولم يلبث أن سارع بطباعتها، وأنا غير مصدق بأن يكون هذا تعامل مسؤول عن مؤسسة ثقافية خليجية بارزة، يتبنى روايتي مع أني بعيد عن الظهور، وجاهل في شلل الثقافة المحلية المزاجية.
حقيقة أني اعتقدت ولو جدلاً، أن يكون بالأمر بعض المجاملة، من طرفه، خصوصاً إني محال له من صاحب الدار، ولكن ما ظهر لي بعدها أنه قارئ حصيف عجيب دقيق، يتعرى أمامه صدر أي كاتب، مهما حرص منشئه على تلبيس حروفه بالديباجات والحرير، ومهما رقص شتاؤه بحلل الصوف المرقش.
لم يكن وهبي مديراً فقط لمؤسسة، بل كان قارئاً للثمالة، لا يقرأ المقطوعة فقط، ولكنه يؤطر كل زاوية فيها ومقصد، ويعيد جمالياتها على أسماعي طرباً، عاشق يحمل الناي، ويغني مغرم صبابة بما يستطيب من أشعار على نوتات ألحان قلبه.
وظهرت روايتي الأولى سنة 2009م، وقمت بتوقيعها في معرض الرياض، من تلك السنة، بعد مراجعات، وجهود في اختيار الغلاف، والمقدمة، وانتقاء كلمة الغلاف النهائية، برعاية الصديق وهبي، الذي لم يكن ينتقد، ولكنه يتواجد بصمته، وتعجبه، وإعجابه، وأستاذيته الراعية لعدم جرح السطور بالتعديلات، أو تعمد مزاجية اختلاف وجهات النظر.
حياة ثقافة غنية جميلة عرفتها في مجال الرواية، وأنا أتراسل معه وهو يبادر بسؤالي عن جديدي، فبحت له أني متردد، من نشر روايتي الثانية «شلالات الشهوة»، السابقة لعصرها، ولكنه أصر على أن يقرأها، ثم أبدى سعادته البالغة بها، وأكد أنها ستكون من الروايات العربية، المفصلية، حتى وإن لم تتفجر بالدعايات ولم تختطفها الجوائز المؤدلجة، ولكنها برغم ذلك ستكون طوبة في مسار الرواية السعودية.
وفي 2010م منعت روايتي من الظهور في معرض الكتاب بالرياض بأيادي هيئة الأمر بالمعروف، فانتقلت معه لمعرضي بيروت، والقاهرة، وأنا سعيد بالرفض مصدقاً بما كان يؤمن به من عمق معرفته، وما يفيضه من شلالات تشجيع لمعظم ما أكتب.
وغادر بعدها عمله في مدارك، وبعد فترة ركود اتجه إلى ذات السلاسل الكويتية، وحينها قمت بإصدار روايتين أخريين، برعايته، «مجتمع كانكن» و»عبر يعبر»، حيث استحثني وشجعني، وأخذ بيدي مجدداً حتى قمت بتوقيع الروايتين، وهو يتكامل في نظري صديقاً قارئاً راعياً للوعي العميق، وما زلت أعتز بمداخلاته على مواقع التواصل حتى يومنا، لأي منتوج أو مقالة أو حتى تغريدة أكتبها، ومهما كانت محلية يستغرب الآخرون من قربه وتفهمه ومحبته لما فيها من خصوصية سعودية، وبشعور الأستاذ، الذي يرى في كراريس تلميذه مناطق لمعة وإشارات تعمق وإجادة وتميز، قد لا يراها من لا يرى بمشاعر قلبه، وعينه، وتقديره.
أنا أستغرب أن مثل هذا الركن الثقافي، قد ابتعد مكانياً عن تلامذته، ولكني أشعر بأنه يظل مرتبطاً بقدسية الحب، مهما بخسه بعض تلاميذه حقه.
أنا أشعر بقربه الروحي، رغم بعده المكاني، وأظل أقرأ في حدقات تعليقاته وشغف متابعته لي كل الزوايا المضيئة، وكل الانتقاد الجميل الداعم، المتفاني من أجل من يحبهم، ممن زرع معهم يوماً، ولو فسيلة كتاب أو مقال بين أمطار غابات الحياة.
أخي الوفي وفيق وهبي، لك الشكر الجزيل على صداقتك، ومقالي هذا طبع سعودي متأصل، يُكبر من قيم الأستاذية، ويعطي الحق لأهله، والود طبعي وعياً الطبع لا يخرج من الروح، الذي يثقل كاهل سدودي، فلم أجد طريقة لمجاملتك، إلا من خلال قطرات بوح جديد، أضيفها لمزامير بوحي معك وحولك في رواياتي الأربع.
ويظل وطنك لبنان الكرامة والشعب العنيد، وبأحبك يا لبنان، ولو أنه هذه الأيام ليس كما كان، ولولا ذلك لتعددت زيارتي له ولك، ولكان لي معك جميل وقت وحوار، نغازل فيه الجماليات بمختلف أصناف الفنون، ونتناظر، ونعلي صيغة مشاعر الأدب الخصب، ونوثق رباط الثقافة العربية الأخوية النقية، ونعطي للمبتدئين في تلك المجالات آثاراً يقتفونها، وعلامات شهامة متبادلة، وخطوط عزة نفس ترتقي فوق المكان والزمان والحال، ولعلنا ندني الخلاصة لعقول وقلوب من لا يعرفون نبع الشيم العذبة، ونكتب كيف تكون الأستاذية بكل نقائها دروساً لا محاضرات فيها ولا تكرار ولا مبالغات ولا مسلمات ولا نقد لمجرد النقد، فلعلهم يفهمون الفحوى من الحياة بعزة، ولا يجرون حفاة عراة على دروب الكسب المادي فقط، ولا ينظرون للكتّاب الجدد من خلال مناطقية وعنصرية ونفاق، ولا حيث يلمسونهم بطاقات دفع إليكترونية، يدوم كرم حبها، ما دام بريقها الذهبي.
أشكرك على كل ما فعلته وتفعله، وتذكر أن رصيدك أستاذنا في بنك القلب، وتفانيك ورعايتك لكل حرف أكتبه هبة سماوية، وجنة مشاعر، من جوف رفيق وهبي، ووعيه، وحرصه على وجود وترقي وتميز وشيوع الأدب، بكل أنواعه الصافية في المهجة والحدقة وطبلة الأذن.