د.عبد العزيز سليمان العبودي
في عام 1988 أصدر بول جونسون كتابه «المثقفون»، والذي يُعد في حقيقته علامة فارقة في عالم الفكر والأدب، فليس ما يميزه هو الجانب الأدبي فقط، بل ندرة أمثاله في الاتجاه النقدي، مع بعض الاستثناءات من الكتب التي تلقي الضوء على مواضيع مشابهة مثل «خيانة المثقفين» لجوليان بيندا، و»المثقفون والجماهير» لجون كاري، بالإضافة إلى «المثقفون والمجتمع» لتوماس سويل، وكذلك «النار في عقول الرجال: أصول الإيمان الثوري» لجيمس بيلينجتون، فالكتب التي تناولت الطبقة المثقفة نقداً وبحثاً في أصولها وتأثيرها، محدودة.
يفتتح جونسون كتابه بالجملة التالية: «هذا الكتاب هو اختبار لمؤهلات الأخلاق والحكمة لبعض المثقفين البارزين ومدى قدرتهم على تقديم المشورة للناس، وكيفية إدارة شؤونهم». وقد اهتم جونسون بدراسة مجموعة من المثقفين أمثال: مثل (جان جاك روسو، وبيرسي بيش شيلي، وكارل ماركس، وهنريك إبسن، وتولستوي، وإرنست همنغواي وبرتولت بريخت، وبرتراند راسل، وجان بول سارتر، وإدموند ويلسون، وفيكتور جولانكز، وليليان هيلمان وغيرهم). ومن الملاحظ، أن أغلبهم من اليساريين. والمثقف، كما يفهمه المجتمع المعاصر، يكون ثوريًا حتى وإن كان محافظًا. فلا يوجد مثقف يتسم بالركود الفكري. بل يَعتبر المثقفون أنفسهم، العقول المدبرة وراء الثورات المجتمعية الهائلة، وشعارهم هو: «المجتمع مريض، ونحن من يعالجه». فعندما نجح اليسار جزئيًا في الحروب الفكرية والثقافية حتى بعد خسران ذراعه السياسي (الشيوعي)، تم إهمال المثقفين المحافظين بشكل عام، وثوار اليمين بشكل خاص، الذين ناصروا العنصرية والفاشية، أو تم تبييضهم بعد اختيارهم من قبل اليسار. ولا يمكن الفصل بين اليسار والمثقفين العصريين، فالمثقف العصري، لا يتردد في التعاطف مع اليسار، وفي الوقت نفسه، يمجد شخصيات مثل هايدجر الذي كان نازيًا. لأن المحرك لهم هو الرغبة في السلطة وأوهام العظمة النرجسية، ولو أن ألمانيا قد انتصرت في الحرب العالمية الثانية، لرأينا أمثال جان بول سارتر يعتنقون النظام الآري الجديد.
ويشير المؤلف إلى وجود محرك يستخدمه المثقفون وهو الجانب النفسي، فلا تنحصر خصائصهم في الأيديولوجيا أوالمعتقدات وحدها، فكثير منهم فاسدون، والأيديولوجيا ليست إلا قناعاً يخفون وراءه اعتلالهم الاجتماعي، ورغبتهم في السيطرة. وقد تبدو هذه النظرة قاسية، لكن بعد الاطلاع على أحوالهم من خلال كتاباتهم ونفاقهم وأزماتهم الدينية أو العقائدية، بالإضافة إلى سلوكهم غير المبالي أوالقاسي تجاه أصدقائهم وزملائهم وشركائهم العاطفيين وكذلك الأطفال، يكشف عن حالة قاتمة يشتركون فيها، ومع ذلك يرى جونسون اختلاف المثقفين في مقدار الانحراف الأخلاقي. فكارل ماركس وروسو، على سبيل المثال، يظهران كمثالين على الانحراف الأخلاقي الشديد، بينما يُعتبر برتراند راسل أكثر استقامةً ويبدو كالقديس مقارنة بهما. ويرى المؤلف، أنه لو تم اختيار أي شخص من الشارع، فسيكون، من الناحية الأخلاقية، أفضل بكثير من معظم المثقفين، ممن نصبوا أنفسهم واعظين للمجتمع. ويشير جونسون إلى بعض المثقفين ممن زيفوا الحقائق لتعزيز نظرياتهم. مثل كارل ماركس وفريدريك إنجلز اللذين قدما أدلة مزيفة على فقر الطبقات العاملة تحت الرأسمالية، كمثال على تلاعبهم بالبيانات واستخدام المعلومات المغلوطة لإثبات نظرياتهم. ويكمن الخطر الحقيقي هنا، في أن الأسس العلمية التي قام عليها الفكر الماركسي، تم بناؤها على معلومات مغلوطة. هذه الأمثلة تكشف عن النفاق والتلاعب الذي يمكن أن يتسرب إلى فلسفتهم وأفكارهم، مما يجعل تأثيرهم على السياسة والمجتمع خطيرًا ومشكوكًا فيه. يُسلط جونسون كذلك الضوء على الجانب المظلم للعديد من الشخصيات الفكرية المؤثرة، مشيرًا بوضوح إلى سلوكياتهم المسيئة للنساء والأطفال، والتي كانت سائدة لدى هؤلاء المثقفين. فعلى سبيل المثال، روسو، ترك أبناءه غير الشرعيين في دور الأيتام، متجاهلاً واجباته كأب، في حين كان يُعلن نفسه صديقاً للبشرية جمعاء، ومصلحًا اجتماعيًا وأخلاقيًا، كما يستعرض جونسون الأفكار المتعلقة بروسو فيما يخص نظريته التربوية ودوره في تشكيل أيديولوجية الدولة ككيان شمولي يُفترض أن يتحكم في جميع جوانب الحياة الاجتماعية، هذه النظرة الثورية في زمانها، إلى الدولة والمجتمع، تعكس مدى تأثير الأفكار السياسية في تشكيل تفاصيل الوجود الإنساني، حيث يُنظر إلى المشرع كمُربٍ وقائد ديني يمتلك القدرة على حل المشكلات الإنسانية. تلك النظرة الشمولية للدولة، تحمل معا مخاطر عميقة، تتجلى في الاستبداد والقمع، والتي تُعد بمثابة نتائج مباشرة لتلك الأفكار السياسية الشمولية. الكتاب يكشف أيضًا عن النفاق الذي يمكن أن يعتري الشخصيات الفكرية التي تحظى بالإعجاب والاحترام، موضحًا كيف يمكن أن تتغير نظرة المجتمع لهم عبر الزمن، فما يُعتبر اليوم خداعًا أو انحرافًا قد يُعاد تفسيره في المستقبل ويُعتبر فضيلة. وهذا يطرح تساؤلات جادة حول كيفية تقييمنا للأفكار والأفراد، وما يُعد أخلاقيًا أوغير ذلك في السياقات المتغيرة عبر الأجيال.
وفي ختام تحليله ينتقد جونسون الدور الذي يلعبه المثقفون، ويطرح السؤال التالي: إذا كانت حياة هؤلاء المثقفين لا تعكس القيم التي يوصون بها، فكيف يمكن الوثوق بتوصياتهم ونمنحها شأنا في تنظيم مجتمعاتنا؟ هذا التساؤل يدفع القارئ إلى إعادة النظر في مصداقية وتأثير من يعتبر مرجعية معرفية وأخلاقية. ويُلقي جونسون الضوء على الاختلاف بين النظرية والتطبيق، من خلال الحث على تقييم مدى تطابق الأقوال مع الأفعال، مما يساعد في تكوين فهم أعمق وأكثر نقدًا للأدوار التي يلعبها المثقفون في المجتمع، بهذه الطريقة، يقدم جونسون للقراء منظورًا، يحث على التفكير في قيمة وفائدة الأفكار التي يتم تدريسها وترويجها من قبل المثقفين على مدى القرون.
بول جونسون مؤلف الكتاب، هو مؤرخ وكاتب بريطاني مرموق، ولد في مانشستر، إنجلترا، في العام 1928. تخرج من كلية ماجدالين، بجامعة أكسفورد، وتأثر بالأفكار اليسارية قبل أن ينتقل تدريجيًا إلى اليمين السياسي خلال مسيرته المهنية. هذا التحول كان مدفوعًا جزئيًا بخيبة أمله من السياسات الاقتصادية الاشتراكية وآثارها الاجتماعية. جونسون معروف بمساهماته الواسعة في الصحافة، حيث نشر العديد من المقالات في مجلات وصحف مرموقة مثل «The Spectator»، «The Daily Telegraph»، و»New Statesman». . وبدأ حياته المهنية كصحفي ثم اكتسب شهرة ككاتب ومؤرخ يتمتع بأسلوب سردي جذاب. ومن أهم أعماله كتاب (تاريخ العالم الحديث (Modern Times، الذي يعرض فيه تاريخ العالم منذ عام 1920 حتى الوقت الحاضر، وقد ألف أكثر من 50 كتابًا خلال مسيرته المهنية، تغطي مجموعة واسعة من الموضوعات، بما في ذلك التاريخ، السير الذاتية، والسياسة.
من الجوانب المثيرة للاهتمام في حياته المهنية لقاؤه مع ونستون تشرشل، عندما كان جونسون شابًا. تأثر جونسون بشدة بهذا اللقاء الذي أثر في توجهاته الفكرية والسياسية. كما ساهم جونسون في كتابة خطابات لمارغريت تاتشر، الأمر الذي عزز من مكانته كشخصية بارزة في الدوائر السياسية والأكاديمية في المملكة المتحدة. جونسون، بفضل أسلوبه النقدي وقدرته على تحليل الأحداث التاريخية والشخصيات العامة بعمق، يعتبر واحدًا من الأصوات الفكرية المؤثرة في القرن العشرين. توفي جونسون في منزله في مدينة ويندسور، إنجلترا، في مطلع عام 2023 عن عمر يناهز 93 عامًا.