غالية بنت محمد عقاب المطيري
إني أسكن في حي راق من أحياء مدينتي وأسعار الإيجار والتملك فيه غالية إلى حد ما ,لذلك أثار استغرابي استجار شابٌ للمنزل الذي أمام منزلي وهيئته تدل على أنه من أصحاب الِدَخْل المحدود، ولكني تجاهلت الأمر أو بل الأحرى شغلتني أمور الحياة والعمل عن ذلك المستأجر الغريب حتى كانت تلك الليلة التي حارب النوم فيها عيني فنهضت ووقفت في شرفة منزلي أتأمل سكون الليل ولسكون الليل وهدوئه نسيج من المشاعر المختلفة لا تعلم , أ هي مشاعر الطمأنينة أم الخوف؟!
ولما الخوف؟
هكذا كنت أتساءل وأنا أقف في شرفة غرفتي وبحركة لا إرادية أغمضت عيني وفتحت ذراعي للفراغ أمامي
لا أعلم مغزى تلك الحركة ولكني شعرت برغبة جامحة لفعلها.
لم يقطع مشاعري المتصارعة إلا صوت نحيب قطع سكون الليل، فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم وأخذت أصغي جيدا لصوت ذلك النحيب الموجع حتى أهتدي لمصدره ولم أستغرق وقتا طويلا حتى وَجَدَتُ أن مصدره ,هو جاري الغريب ذاك .
خَرَجَتْ مسرعا إليه ومما زاد استغرابي أن بابه لم يكن موصدا كمن كان ينتظر أحداً. و وجدته منطرحا لا يقدر على النهوض واقتربت منه فإذا هو محموم يرتجف جسده الهزيل من شدة وطّئتْ الحمى اتصلت بمنزلي وطلبت منهم أن يحضروا لي دواءً خافضا للحرارة وأن يجهز السائق سيارتي لأحمل جاري إلى أقرب مستشفى.
وما أن استقرت حالته وفتح عينيه ,, سألته ما به ولكنه نظر إلي نظرة العاجز الكسير وصمت ورغم هدوءه إلا أني أحسست بأنه يعيش معركة في داخله.
فالصمت معركة كبيرة في دواخلنا لا يمكن فهمها أو تحليل معانيها والكثير يرى فيه السلامة، ولكن الحقيقة أن الصمت، من أعظم أنواع الكَبَدْ، التي يواجهها الإنسان ,ولا يقدر على إتقان فنونه إلا النفوس الكبيرة.
لذلك ليس من الصواب أن نقول آثر الصمت ولكن الصواب أن نقول آثر أن يكون شجاعا ويخوض معركة الصمت.
لذلك نظرتُ لجاري نظرة الرحمة واقتربتُ منه وضممته إلي ,وكأنه ينتظر تلك اللحظة فأجهش بالبكاء والنحيب وكان صوته ضعيفا متقطعا وهو يقول أتعرف من أنا؟؟
أنا فلان الفلاني وذكر لي اسم تاجر وثري من أكبر تجار مدينتنا وأعظمهم ثراءً.
أبعدته ونظرتُ في عينيه، وعيناي تهتف به قبل لساني ولما حالك هكذا؟
فأجابني لقد كنت فتى لا يعرف الحلال والحرام نشأتُ في نعم الله أتقلب فيها ذات اليمين وذات الشمال. كنت تاجراً منذ نعومة أظفاري أعلم كيف أحقق الأرباح وأغير الخسارة إلى نجاح, حتى أتى ذلك اليوم و يا ليتني هلكتُ قبله ثم زفر زفرة تُقطعَ نياط القلب وصَمَتَ ، وبين ذهولي وفضولي أقسمتُ عليه أن يكمل فقال أخشى إن أكملتْ, أنك لا تستطيع أن تعيش بقِيتْ أيامك إلا وأنت تدعو علي بالويل والثبور.
وما زلتُ به حتى استطرد في حديثه وقال:
دخلت المنزل وكعادتي ذهبت إلى غرفتي وإذا بطفلي الصغير ذو الأربعة أعوام على السلم ينتظرني بحبور، فأغضبني بتعلقه بي ودفعته من علو فسقط على الأرض مُضَرَّجٌ بدمائه، ثم مضيت ونمت. فلما أفقت من صباح الغد إذا بطفلي وحبيبي قد فارق الحياة ومنذ ذلك اليوم لم يهنأ لي مطعم أو مرقد فأصبحت كالنائحة الثكلى يقتلني شوقي له، فصوتهُ وضحكاتهُ ما زالت ترن في وجداني.
فهل ينفعني الندم أو يطفئ وجعي جاها أو مالا؟!!
أنا يا جاري العزيز رجلٌ قتل فلذة كبده.
فهل لذنبي من توبة ولحزني من دواء؟!!
عندها همهمت ببيت شِعْرِ لأبي نواس
لَنْ تَرْجِعَ اَلْأَنْفُسُ عَنْ غَيِّهَا
مَا لَمْ يَكُنْ مِنْهَا لَهَا زَاجِرٌ