عبدالله العولقي
الأوروبيون عموماً، والفرنسيون على وجه الخصوص يؤمنون بعامل (الجنس/ السلالة) كأثر مباشر في التباين الثقافي البشري، وتأتي هذه النظرة كنتاج ثقافي مباشر لنظرة أوسع تتشكل من فكرة الاستعلائية/ الفوقية التي يرى الغرب فيها ذاته ويتعامل بها مع الآخرين من خلال هذا المنظار، وبما أن الحضارة الغربية الحالية هي السائدة عالمياً ولديها الحضور المؤثر على بقية الثقافات البشرية فقد ترسخت هذه النظرة العنصرية في أدبيات الفكر الغربي دون أي تحليل ثقافي أو فكري أو تاريخي رغم المدارس النقدية المؤثرة لديهم والتي يرفض بعضها هذا الطرح، فمثلاً، يرى الغرب حضارته من وجهة ثقافية استعلائية من زاويتين، الزاوية الأولى زمنية باعتبار أن الحضارة الحالية هي امتداد زمني للحضارتين القديمتين: الإغريقية والرومانية دون النظر إلى فترة الجمود التي عمت بلادهم إبان العصور الوسطى، بالإضافة إلى إنكار تأثير الحضارات البشرية الأخرى -كالحضارة العربية الإسلامية مثلاً- في تكوين وتقدم الحضارة الغربية الحالية، أما الزاوية الثانية فهي مكانية باعتبار أن أوروبا هي الجغرافيا الحاضنة لهذا التطور الثقافي والحضاري الفريد، وبالتالي لا يتم فهم أو استيعاب وجود أي مكان جغرافي آخر يتسم بحضارة أخرى تكافئ حضارته الغربية في نتاجها الإنساني، ولعل الظهور المفاجئ للصين في السنوات الأخيرة كند تكافؤي حضاري شرقي للحضارة الغربية وعلى الأصعدة والمجالات كافة، كان بمثابة الصدمة الثقافية والربكة الذهنية التي قد تعيد إحياء مفهوم النقد الثقافي من جديد أو قد تعيد النظر تجاه الآخر بموضوعية أصدق وأكثر واقعية، وبالتالي بصورة صائبة وبعيدة عن مظاهر النظرة الثقافية الاستعلائية، ولعل نظرية التفوق الآري التي أفرزت الفكر العنصري الأوروبي المتمثل في النازية مثلاً، هي دليل جلي على ترسخ هذه الفكرة لديهم، والتي قد تتمثل اليوم بصورة شعبوية جديدة عبر وصول الأحزاب اليمينية المتطرفة إلى سدة الحكم في العديد من الدول الأوروبية وعبر صناديق الاقتراع!!، وحتى نفهم ملمحاً من ملامح تلك الصورة الثقافية فعلينا العودة مثلاً إلى نظرية نقدية تاريخية ابتدعها الناقد الفرنسي الشهير هايبوليت تين، وهي لا تبعد كثيراً عن تلك الفكرة، ولكن بصورة مغايرة قد تكون موجهة للآخر لتصيبه بصورة أو بأخرى بالانهزامية الثقافية، وهذه الانهزامية قد نستلمحها من كتابات بعض الكتاب والمفكرين العرب الذين وقعوفي فخ الانهزامية الثقافية وأقروا بعجز العقل العربي عن مجاراة العقل الأوروبي في إبداعاته وابتكاراته، وحتى نفهم هذه النظرة الغربية بصورة أوضح، نذكر أنه عندما قرأ المفكر والمؤرخ الفرنسي غوتيه مقدمة ابن خلدون أصابه الذهول والدهشة وربما اعتراه الحسد من كثافة العبقرية الاستثنائية التي أودعها العقل العربي الإسلامي في تلك المقدمة، فكان تعليقه عنصرياً بحتاً عندما قال: لعل روحاً أوروبية اخترقت البحر المتوسط لتستقر في صدر ابن خلدون حتى يبدع رائعته الفلسفية في علم الاجتماع والتاريخ!!
فعامل الجنس السلالي هنا له أثره في فكر النقد الفرنسي، ولا نذهب بعيداً فرائد النقد الفرنسي سانت بوف كان مؤيداً لهذا العامل الأنثروبولوجي، ويضعه في حسبانه حتى عند تناوله للأدباء الفرنسيين أنفسهم، وقد امتد تأثيره المعرفي إلى تلميذه هايبوليت تين الذي حصر نظرية النقد الأدبي في ثلاثة أركان: 1- الجغرافيا/ المكان، 2- الزمن/ العصر، 3- الجنس/ السلالة البشرية، فمن خلال هذه العناصر روج الناقد الفرنسي لفكرة التفوق الأوروبي على الآخر (السلالات الآسيوية والأفريقية) في الشاعرية المتدفقة وخصوبة الفكر والخيال!!، هذه النظرة العنصرية التي تهزم ذلك الآخر ثقافياً وفكرياً، وربما قد تحول بينه وبين الإبداع والابتكار، باعتبار أن الأنموذج الإبداعي هنا هو صناعة ثقافية غربية بامتياز، وما على الآخر سوى محاكاة هذا النموذج فقط، أو محاولة اتباعه واستهلاكه كما هو واقعنا اليوم وللأسف الشديد (التكنولوجيا مثلاً)، لأن أي خروج عن هذا المسار -من وجهة النظر الغربية- سيعد خارج نطاق التميز والإبداع، وللقارئ الكريم أن يتخيل أن معايير هذا النموذج تنحصر في مجال الأدب مثلاً، بجائزة نوبل التي نجح الغرب في تسويقها كمعيار إبداعي عالمي للأدب الإنساني، ولو أحدثنا مقارنة بسيطة بين الأدب العربي والأدب الغربي لوجدنا أن أديباً عريباً وحيداً قد حصل على هذه الجائزة سنة 1988م، أي قبل خمسة وثلاثين عاماً تقريباً، هذه الحادثة مردها -بقصد أم بغير قصد- إلى إحداث انهزامية ثقافية في هذه المقارنة، وبنظرة تجردية حصيفة وبدون أي ميل ثقافي نجد أن العديد من الأدباء والشعراء العرب كانوا أحق بالجائزة من كثير من الأدباء الغرب الذين حصلوا عليها، لا سيما أن بعضهم كان نتاجه الثقافي والأدبي لا يرقى على الإطلاق إلى مستوى الجائزة، وقد أثيرت هذه المسألة في الإعلام الغربي نفسه!!
ولو عدنا إلى نظرية تين، نجد مثلاً أن عامل المكان/ الجغرافيا وأثره على ابتكارية المبدع قد وعته الذهنية العربية منذ وقت مبكر وقبل نظرية تين بقرون عديدة، وتحديداً في العصر العباسي عندما ازدهرت الآداب وتلاقحت الأفكار مع آداب الثقافات الأخرى، هذا العامل تحديداً قد استوعبه الخليفة العباسي المتوكل جيداً، فعندما مدحه الشاعر: علي بن الجهم، القادم من أعماق الصحراء، وأنشده:
أنت كالكلب في حفاظك للود
وأنت كالتيس في قراع الخطوب
لم ينهره أو يقتاده إلى الموت كما رأى في ذلك الوزراء والأعيان حينها في مجلس الخلافة، فقد كان الخليفة المتوكل يعي جيداً هذا العامل الثقافي، بل إنه استنبط شاعرية إبداعية جميلة وموهبة أدبية وراء تلك الأبيات الجافة، فقرر أن يستضيف الشاعر في قصره المنيف، وهنا لك تأثر ابن الجهم بمناظر الحدائق الغناء التي تملأ جنبات القصر، وبالجواري الحسان، وبنوافير المياه التي تملأ أذن الشاعر بخريرها العذب، وبعد مضي عدة أشهر، امتلأت ذاكرة الشاعر المطبوع بفكر ووعي جديد، وعندما دخل على الخليفة المتوكل للمرة الثانية، أنشده:
عيون المها بين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
هذا التباين الشاسع بين القصيدين يعكس عامل المكان (الصحراء وقصر الحكم، كلاهما داخل جغرافيا الخلافة العباسية) الذي وعاه الخليفة المتوكل قبل هايبوليت تين بقرون عديدة، وحتى لو رجعنا بعامل الزمن إلى العصر الجاهلي، ورغم عامل المكان الجاف فلا يمكننا وصف العقل العربي بالقاصر أو العاجز عن مجاراة العقل الأوروبي، بل على العكس تماماً، نجد مثلاً أن مخيال الشاعر امرئ القيس يتفوق على قيود ذلك العامل ليقول عن معاناته:
وليل كموج البحر أرخى سدوله
علي بأنواع الهموم ليبتلي
هذه الصورة الشاعرية الفخمة لا تعكس جدب المكان بقدر ما تعكس تفوق المخيال العربي على هذا العامل ليصل إلى هذه الفخامة السامية في الأدب الإنساني عموماً، فتبعاً لعامل البيئة/ المكان الذي تحدث به تين، فامرئ القيس الذي عاش في البيئة الجدبة القاحلة وأتى بهذا التصوير البديع هو أخصب خيالاً وأكثر إبداعاً من الشاعر الفرنسي الفونسو لامارتين -على سبيل المثال- الذي عاش بين مروج الغابات الفرنسية ونهر السين البديع، هكذا هو المقياس الصحيح إن صح التعبير، وهناك شواهد إبداعية كثيرة من الأدب العربي، لا نستطيع حصرها نظراً لمساحة المقال.
في عشرينيات القرن الماضي، قدم الدكتور طه حسين أطروحة شهادة الدكتوراه الثانية إلى جامعة السوربون الفرنسية حول (نظرية ابن خلدون الاجتماعية)، وتعد السوربون إحدى قلاع العلم المهمة في القارة الأوروبية كما هو معروف، لاسيما في الآداب الإنسانية، وفي هذه الرسالة ينفي عميد الأدب العربي سمة العبقرية عن ابن خلدون بصورة غريبة، فيقول: يجب ألا نستنتج من كل ذلك أن ابن خلدون قد استخرج سياسته الإجتماعية من العدم، أو أوحتها إليه عبقريته الخارقة، وبعد هذا النفي يقدم الدكتور طه حسين رأيه في سر قوة النظرية الخلدونية: السبب الجوهري في ذلك، هو بلا ريب نقص معارفهم العامة عن الخليقة، فقد كان من الضروري الإلمام بعلوم مختلفة، والوقوف بأوسع مما عرفه الأقدمون على نظريات تاريخية وجغرافية درست ووضعت على شكل دائرة معارف حتى يمكن الاستعانة بمجموعة ملاحظات شاسعة كهذه على وضع فلسفة عامة عن المجتمع البشري.
وخلاصة رأي طه حسين كما لخصه على الوردي بقوله: إن ابن خلدون ما كان بمقدوره أن يبدع نظريته الاجتماعية لو كان قد عاش في زمن قبل الزمن الذي عاش فيه، فقد استطاع أن يبدع تلك النظرية لأنه عاش في زمن أخذت تظهر فيه الموسوعات الضخمة ذات المجلدات العديدة، والتي جمعت فيها كل تلك المعلومات التي كانت معروفة لدى البشر يومذاك، ومن المحتمل جداً أن هذه الموسوعات كانت عوناً لابن خلدون في توسيع فكرته الجوهرية ودعمها بهذا الشكل، ومن هذه المقولة قد نستنتج الانهزامية الثقافية التي وقع فيها الدكتور طه حسين، ولعل تأثره بالثقافة الفرنسية كان له أبلغ الأثر تجاه هذه الانهزامية، فالمؤرخ الفرنسي غوتيه التي أدهشته نظرية ابن خلدون الاجتماعية لم ينكر عبقرية كاتبها، وعندما عجز عن تفسير ذلك النبوغ هرع إلى اللا معقول، فهو يعتقد كما يقول الوردي أن التفكير المبدع هو من خصائص العقلية الأوروبية، وأن هذه العقلية الإسلامية عاجزة من هذه الناحية، ولا بد إذن من أن نفترض أن نفحة من النهضة الأوروبية قد خرقت نظام المحيط المحكم بالشرق الإسلامي حتى وصلت إلى روح ابن خلدون الشرقية، وهذا التفسير الغريب ورغم عنصريته البغيضة والتي لا تختلف عن نظرية هايبلوت تين إلا أنها لم تنف العبقرية الخلدونية على عكس حديث طه حسين الذي ربما يكون قد وقع في أسر الانهزامية الثقافية فراح ينفي عبقرية الإبداع الخلدوني ويفسرها بظهور الموسوعات التاريخية التي أعانت ابن خلدون على توسيع فكرته الجوهرية ودعهما، وهو تفسير لا يمكن إنكاره أو نفيه بقدر ما يمكن إضافته فقط إلى العوامل الكثيرة التي ساهمت في بروز النظرية، وفي نفس الوقت لا يمكن إنكار عبقرية وتميز ابن خلدون في مقدمته والتي كانت النواة الأولى لتأسيس علم الاجتماع وفلسفة التاريخ.