سليم السوطاني
من خلال قراءاتي، في مجال القصة والرواية، تشكلت لدي قناعة وإيمان تام بأن كتابة القصة أصعب من كتابة الرواية، وتكمن الصعوبة في إيجاد فكرة القصة، ونوعيتها، لتكون جاذبة للمتلقي، وتشمل الصعوبة حتى بناء الشخصيات، التي تتوافق مع الأحداث المتسارعة للقصة، إلى جانب الأمور المتعلقة بالأسلوب وتقنيات القصة الفنية والتصويرية والتعبيرية، التي لا تكفي لذكرها هذه العجالة.
ومن خلال الفكرة العميقة لقصص «أشباح الحبيبات»، للكاتبة لينا الحسن، التي صدرت عن منشورات «ضفاف» ومنشورات «الاختلاف» 2024م، والتي تدور فكرتها حول توثيق أشهر القصص الشعبية لـ «أشباح» النساء في سورية.
قرأتُ قصة مختلفة في بنائها وأسلوبها، ما أحدث لديّ الدهشة والإعجاب بفكرة القصة أولاً، وبأسلوب القاصة ثانياً.
تقول القاصة، من خلال ما وضعه الناشر في الغلاف الخارجي للقصة: «اقتفيتُ أثر كل ما كُتب عن هذا العالم (الخرافي، الشعبي) في نظر كثيرين. لكنّه في الواقع هو عالم قائم موجود، حاضر في عيون بعض الناس!
إنها (حضورات) جذّابة آسرة، ساحرة، يمكن أن تكون مرئيّة على نحوٍ ما في ظروف نادرة». *
الفكرة استمدتها من خلال المرويات الشفهية، من الجدات والأمهات، وبذلت الكاتبة جهدًا كبيرًا لإنجاح فكرة القصة، من خلال تتّبعها كل ما يمت بصلة إلى هذه المرويات، وقصدت الأمكنة التي ذُكرت في هذه المرويات. والأستاذة لينا - من خلال قراءتي لجل أعمالها الروائية – دائمًا، بعدما تجد الفكرة النوعية والمختلفة لكتابة عمل روائي جديد، تبحث بشغف، وتدوّن كل ما يتعلق بهذه الفكرة من معلومات تاريخيّة، وطقوس، وطبيعة المكان... حتى يخرج العمل متكاملًا ونوعيًا عند نشره.
استخدمت في القصص، التي جمعتها بين دفتي «أشباح الحبيبات»، أسلوبًا فنيًا (تكنيك) تنظيميًا رائعًا يجذب القارئ للدخول في عالم كل قصة، وقد بلغت ثلاث عشرة قصة، معنوِنةً كل قصة بكلمة شبح...، وتتكرر كلمة «شبح» في بداية كل عنوان قصة... تبدأ بذكر اسم بطل القصة، والزمان الذي دارت فيه الأحداث، ومكان الأحداث. بعد ذلك تأتي بسرد فلسفي عميق قصير يمهد لفكرة القصة، ثم يأتي عنصر «الظهور»، الذي بدأ فيه زمن القصة، حتى تصل إلى عنصر «الحكاية»، الذي تَعرض فيه الأحداثَ في شكلٍ متسلسل، على إيقاع شائق متسارع، حتى تصل إلى نهاية القصة. ويتكرر هذا الأسلوب في كل قصة من قصص الكتاب، ولن أذكر التفاصيل لكل الشخصيات التي وردت في القصة، لكي أتجنب إحراق المتعة لدى القارئ، الذي يرغب في قراءتها، ولا سيما أن عدد صفحات الكتاب قليل، ومع جمال السرد وحبكتها سيلتهمها القارئ في جلسة واحدة.
يجد القارئ في هذه القصص العديد من الأمكنة، في الشام وسورية، تضاف إلى ذاكرة القارئ، وخصوصًا من يجد متعة في معرفة الأماكن، ويعني له هذا العنصر الفني أهمية بالغة في قراءة القصص، وربما يبحث عنها من خلال محرك البحث، مثل: حي القنوات في دمشق، حي القيمرية، جبال اللاذقية... والعديد من الأمكنة، وقد تعددت مسارح أحداث كل قصة، ما بين دمشق، وحلب، واللاذقية، ومدينة حماة، وريف مدينة حمص...
كل هذه الأمكنة، التي كانت مسرحًا لأحداث القصة، تشد فضول القارئ، ويقرأ عن كل مكان ورد في القصص، ويطّلع على صور الأحياء والجبال، والمدن، والريف... وهذا يعطي ثقافة جغرافية عن المدن المحملة بعبق التاريخ والحضارة العربية والإسلامية، لدى القارئ، الذي تغريه ذاكرة المكان.
أسلوب الكاتبة كان شائقًا وجاذبًا، وتميّز بالحبكة الدرامية المتقنة، والوصف الإثرائي البديع، الذي حلّق بنصوص القصة إلى سماوات الإعجاب والدهشة.
الكاتبة لينا هويان الحسن تؤمن إيمانًا عميقًا بأن مَرَدَّ الحكايات للنساء، وتتقاطع في ذلك مع المقولة التي يرددها أكثر النقاد، وهي «أن أجمل الروايات هي التي تخرج من أفواه الجدات والأمهات»، وقد ضمّنت ذلك نهاية القصص؛ تحت عبارة «شكر وامتنان»، فتقول: «كلّ النساء حكّاءات بالفطرة، لكل امرأة قصة، وكلّنا شهر زاد».
تبقى لينا من أجمل الأقلام الأدبية التي تهتم بتفاصيل دقيقة في سرد الحكايات، ومطاردة الأماكن الحافلة بالأحداث... وأجدها أفضل مَن يتناول موضوع «الأساطير» في فن الرواية والقصة، وقد سبق لها كتابة العمل الرائع «حاكمة القلعتين»، التي كانت من ضمن القائمة الطويلة المرشحة لجائزة «بوكر» العربية 2023م. وتبقى حكايا الأساطير حاضرة في مخيلة الإنسان العربي، ويتوق إلى سماعها.
اقتباس من القصص:
«أحيانًا ثمة موت يسبق الموت، موت نجرّبه، موت يُعاش: لحظة نَطردُ فيها كلّ أصوات العقل، وتروح أطراف الشوق المدببة تلسع حوافّ القلب.
وهنالك الحزن الأخير، عندما نكتشف أن الحياة طائر أفلت من يدينا ولن نمسك به ثانية». *2
**__**__**__**__**
1-2 «أشباح الحبيبات» قصص
حكايات أشهر أشباح النساء الحيّة في ذاكرة الشام.
الكاتبة: لينا هويان الحسن
من منشورات ضفاف: ومنشورات الاختلاف
عدد صفحاتها: 104