حسن اليمني
في مدارسنا الابتدائية مادة لتعليم اللغة العربية باسم «لغتي» تجمع مواد كانت في الماضي منفصلة عن بعض مثل (المطالعة، التعبير، الإملاء، الخط، النحو، البلاغة والنصوص) وهي مناهج تعنى بتجويد اللغة وضبط بيانها إضافة إلى تدريس القرآن الكريم وتجويده وتفسيره.
وما هو باطن عن الظاهرة في هذا الاعتزاز وحماية اللغة وترسيخها في عقول النشء بما يؤصّل هوية الطفل العربي ودعم خطوط دفاعه أمام اللغات الأجنبية بما في ذلك ضبط اللسان وحماية أصيل الهوية وتاريخها الثقافي وأصالتها القومية والأممية، غير أن الداخل التعليمي أصبح اليوم يتباعد عن الخارج المجتمعي بالاتجاه نحو التباهي والتفاخر بالكلمات والمصطلحات الأجنبية وخاصة الإنجليزية حتى إن مشاريع مستقبلية تجرأت على اللغة العربية ولبست العناوين الأعجمية التي تستوجب تقليم حركة اللسان في البيان العربي بما استوقفني في تأمل عناوين هذه المشاريع والمنشطات الاجتماعية، وتأمل معي:
- سكس فلاجز.
- نيكولاس لبطولات القولف.
- تيرتل باي.
- سادون.
- ديزرت روك.
- نيو إم
- اوكساجون.
- تروجينا.
- رياد بارك.
- رياد بوليفارد.
- رياد وورد.
- رياد إرت.
- لاونج.
وأضف لذلك (ديربي وهاتريك وأسيست وغيرها في اللمحات الرياضية) مجرد أمثلة لمصطلحات أعجمية كثيرة دخلت ثقافتنا العربية أملاها الرغبة في الظهور للعالمية التي تسودها اللغة الإنجليزية لتلائم معطيات العصر وتمتزج به وتنسجم معه، لكني أظن أن هناك طريقة أخرى لاستخدام اللحن أو النغمة في الكلمة العربية القادرة على مزاحمة مثيلها الإنجليزي أو العالمي بما أن اللغة الإنجليزية صارت هي اللغة العالمية في هذا الوقت فيما لو تمت الاستعانة بمجامع اللغة العربية سواء لدينا أو في الدول العربية الأخرى.
إن تعجيم البيان الفصيح يعني قصوراً وضعفاً في الإبداع والابتكار من قبل مجمعات اللغة العربية وبما في ذلك الجامعات وكلياتها المختصة باللغة العربية المفترض فيها استثمار المخزون اللغوي في توفير البدائل الأفضل والأرقى باللحن والنغم في تفاعيل الكلمة والمصطلح ليعكس قوة وثراء اللغة العربية في اجتذاب اللسان الأعجمي وتطويعه للبيان العربي بطريقة سهلة ومرنة جذابة ومغرية للأذن واللسان الأعجمي، وبما يعين ويساعد ويحفز على عشق اللغة العربية والغوص في عمقها بنفس المثل الذي دعانا لاستخدام الكلمات والمصطلحات الأعجمية للحصول على (رنة العصر) بإيقاع عربي يقدم الحافز الجاذب للأعجمي في جمال اللغة العربية وثقافتها وحتى تاريخها بما يساعد في خلق مساحة في الفضاء اللغوي العالمي ويعطي خصوصية المنجز العربي مساحته المستحقة في الذهن واللسان الأعجمي.
إن أكثر ما يتطلع له السائح في بلاد أجنبية عنه ومختلفة عن ثقافته وطبائع محيطه هو أن يلمس ويتذوق طعم وثقافة البلد المزار، بما يعتبر ثراء وغنى لعقله وفكره وفهمه، وحين يجد لغته ومصطلحاته تلاحقه وتقتحم به خصوصية ثقافة أجنبية عنه فإنه ومهما أبدى من إعجاب بالإنجاز إلا أنه سيبقى يشعر بما قد أسميه (الغربة الانعكاسية) التي تخلق في وعيه انطباع الخيبة متى كان ذا عمق ثقافي والتعالي بالنفس والاستهانة من الآخر متى كان ذا وعي سطحي ساذج، وهذا وذاك مع تلبس المنجز بالشكل المستعار يقلل من قيمة المنجز ويعطي انطباعاً سلبياً عن المشهد وإن يكن خفي داخل الوعي وبذات الوقت يعطي شعوراً بالنقص والدونية للمضيف وإن كان أيضاً يمر بخفاء داخل وعيه ويحاول تجاوزه بمزيد من إظهار المثالية المزيّفة في الضيافة والتكريم والاستجابة على حساب القيمة والأصالة المترسخة في تكوينه، وكل هذا وذاك ينتج بحركة فيزيائية خفية داخل الوعي دون إرادة أو قصد أو حتى تكلف.
أي سياسة ترويجية أو تحفيزية لصناعة الإشهار والجذب إن تجاوزت عمقها والعناية به تصبح منجذبة وأداة إشهار للمنجذب إليه, أي أنها إن لم تخدم مضمونها تحولت وصارت خادمة لخارج مضمونها بما يساعد في تهميش ذاتها وتصغيره بدل من تعلية كينونتها وإشهارها لتدخل فضاء المنجزات العصرية المتناغمة باستقلاليتها في تكوينة المبهرات العصرية تلك التي استعارت مسمياتها وعلاماتها لتنسجم معها على حساب عمق مضمونها وأصالة هويتها, وهي إستراتيجية ترويجية سهلة وبدائية لا تظهر إنجازاً حقيقياً تصعد به إلى العالمية تحقيقاً لمقولة (فاقد الشيء لا يعطيه) وسيكون مجال بريقها وسطوعها في ساحة الجذب والإشهار العالمية وقتية ذات نفس قصير يستدعي مزيداً ومزيداً من الانصهار والذوبان في الآخر خارج جذرية الأصالة في العمق بما يفقدها قيمتها وهويتها, لتصبح مجرد تكرار ممل ليس له أثر خاص يمكن أن يضيف جديداً للوعي والفهم الزائر.
أخيراً فإن التمازج الثقافي والتناغم بين المفاهيم المختلفة على مستوى العالم مسار صحي وإيجابي ولكن العملية هنا مثل عمل الجراح الطبي في الفصل بين الأوردة والشرايين بدقة وحرص عال لتأمين الوصول للسلامة دون أعراض جانبية قد تحول الدواء لداء مستعص، على أن اللغات تبدأ بالاندثار حين تبدأ باستعارة الكلمات وترويجها وتشجيع انتشارها لتقص وتحل محل كلماتها الأصيلة بما يساعد في تجاوز ليس اللغة وإنما هوية اللغة وثقافتها بما يشمل الفهم والوعي المشكل للسلوك ومخزونها الأخلاقي، وقد أكون مدقعاً ومتشدداً في التحفظ بما يتجاوز الطبيعي ولكن لعلي لا أكون مخطئاً أن أشرت لأهمية إعادة تدوير الكلمة والمصطلح الأجنبي للمنجز العربي للوصول لمنح الإنجاز درجة الإعجاز.