د. تنيضب الفايدي
صدر لي كتاب (من طرائف الذكريات) قبل أقلّ من شهر، وذكرت فيه شوارع وأزقة وأحوشة (حارات) المدينة قبل أربعين عاماً مع بعض الصور المعبرة عنها، علماً بأن شوارع المدينة عبارة عن أزقة، فشوارعها كانت محدودة جداً مثل: شارع العينية، وشارع الساحة، وشارع العنبرية، أما البقية فهي مجموعة من الأزقة الضيقة جداً، مثل: زقاق الطوال، زقاق الحَمّام، زقاق البقيع، زقَاق مظهر، زقاق الحبس، زقاق إسماعيل، زقاق الكبريت، زقاق الطيار، زقاق بيومي، زقاق جعفر، زقاق ياهوه، زقاق عانقني، زقاق الخياطين، زقاق السلطان، زقاق درة، زقاق المناصع وغيرها من الأزقّة. أما الأحوشة مثل: حوش خميس، حوش السيد، حوش القائد، حوش كرباش، وحوش أبو شوشة، حوش أبو ذراع، حوش الراعي، حوش عميرة، حوش مناع، حوش الخياري، حوش أبو جنب، حوش الجوهري، حوش المغربي، حوش الصعيدية.
ومعلوم أن الحوش في المدينة المنورة عبارة عن حارة مصغرة قد تكون ثلاثة منازل أو أكثر قد تصل إلى 54 بيتاً، ومع معرفة الأزقة وكثرتها وقد رصدت أسماء الأزقة المشهورة، وكذا الأحواش (الحارات) عام 1394هـ عند مشاركتي في الإحصاء الأول للمدينة المنورة، وعند إزالتها زرت بالسيارة بعض مواقع الأحواش (حارة) التي أزيلت والتي كنت أعرفها تماماً فلم أستطع تحديد موقع الحارة، وكذا الأزقة (شارع ضيق جداً) فلم أستطع الاهتداء إلى موقع الزقاق وبدايته ونهايته، هذه المقدمة لمن تجرأ حالياً وحدّد مواقع الآبار التي اندثرت منذ عهد قديم وحدد موقعها وقد يكون بعضها حفر بئراً آخر بجواره وأطلق عليه نفس المسمى، ومعلوم أن فتحة البئر تكون محصورة من متر ونصف إلى مترين وعند اختفائه لا يعلم بالتمام أين يقع، ولعلّ فتحة البئر التي تمت المحافظة عليها داخل الحرم جهة باب الملك فهد يدل على صغر الفتحة لبئر تم توثيقه فكيف يتم تحديد آبار اندثرت، بل البعض منها كانت غير معروفة الوجه في زمن السمهودي أي: قبل خمسمائة عام، حيث قال في بئر أنا وبئر أنس بن مالك وبئر جاسوم إنها غير معروفة اليوم، وقال في بئر إهاب : هي بالحرة الغربية غير أنها لا تعرف اليوم بهذا الاسم، فكيف الآن؟!! ومن الجرأة غير المحمودة أن تسند تلك الآبار إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وتحدد بعدد معين غير تلك السبعة التي ذكرها العلماء السابقون بأي عدد كانت، حيث حدد أحدهم حالياً الآبار النبوية بـ 14 بئراً، سواء (14) أو أقل أو أكثر عدا السبعة المذكورة التي سجلت في التاريخ، سواء من قِبل المؤرخ السمهودي أو المؤرخين الآخرين، ونقول لكلّ محبّ للمدينة أن يلتزم في تحديد مآثر النبي صلى الله عليه وسلم بالمعلومات التي وردت عن المؤرخين السابقين المعتمدين، أما أن يضيف أي أثر يتعلق بالمدينة فهذا تجاوز لا علاقة له بالعلم وأكثر تجاوزاً أن يسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول آبار النبي صلى الله عليه وسلم من ذاته، فلم يعهد من المؤرخين أن يتكلم بأعداد ليس عليها برهان، وقد كثر المرشدون السياحيون عن آثار المدينة النبوية ومواقعها والحمد لله، ولكن عليهم الالتزام بما ورد عن تلك الآثار، خاصةً فيما يتعلق بالسيرة النبوية وعدم الإضافة أو تحديد الموقع من قِبلهم، ولذلك كتبت هذه المقدمة لمن يتجرأ على تاريخ المدينة النبوية ولاسيما ما يتعلق بالسيرة المكانية مثل آبار النبي صلى الله عليه وسم.
والبئر: هي الجُبُّ، وجمعها بِئار وأبار، وتقلب فيقال آبار، وهي حفائر تحفر حتى ينبع الماء من أسفلها، ويرتفع منها ارتفاعاً لا يبلغ أعلاها. وقد ورد ذكر البئر في القرآن الكريم {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} (45) سورة الحج، كانت المدينة المنورة تشرب من آبار متفرقة في العهد الجاهلي، كما أنها هي مصدر الماء في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تذكر لنا المصادر ما يفيد عن آبار حفرت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وربما يكون سبب ذلك أن الآبار المتوافرة عند هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت كافية إلى جانب مصادر المياه الأخرى.
وآبار النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة نحو عشرين بئراً، كما ذكرها السمهودي في كتابه وفاء الوفا (3-348) وهي: بئر أريس، بئر الأعواف، بئر أنا، بئر أنس بن مالك بن النضر، بئر إهاب، بئر البصة، بئر البضاعة، بئر جاسوم، بئر الجمل، بئر حاء، بئر حلوة، بئر ذرع، بئر رومة، بئر السقيا، بئر العقبة، بئر أبي عنبة، بئر العهن، بئر الغرس، بئر القراصة، بئر اليسيرة، أما مجد الدين الفيروزآبادي فقد ذكرها ضمن أماكن المدينة وقد أوصلها حوالي 12 بئراً، المغانم المطابة للفيروزآبادي (2-612)، كما ذكر آباراً أخرى ولم يسندها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لكن اشتهرت تاريخياً سبعة آبار لارتباط كلّ منها بحدث تاريخي مشهور، حيث أطلق عليها مسمى: آبار النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعذب ماءها، فشرب منها ودعا لها بالبركة، وبصق في بعضها، أو جلس عليها، الضوء اللامع لأهل القرن التاسع للسخاوي (7-162)، وفاء الوفا للسمهودي، (3-348)، سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد للصالحي (7-230) الجواهر الثمينة للسيد محمد كبريت، ونزهة الأنظار للورثلاني، الرحلة العياشية (ماء الموائد) للعياشي، يقول السمهودي: «وقد استقصينا هذا الغرض فبلغ نحو عشرين بئراً، لكن الذي اشتهر من ذلك سبعة، ولهذا قال في الإحياء (أي: إحياء علوم الدين 1-38):» ولذلك تقصد الآبار التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ منها ويغتسل ويشرب، وهي سبعة آبار، طلباً للشفاء، وتبركاً به صلى الله عليه وسلم. وهي: بئر أريس، بئر حاء، بئر رومة (بئر عثمان) وبئر غرس، وبئر البصة، و بئر بضاعة، و بئر العهن، وقد صيغت تلك الآبار شعراً، وفي ذلك يقول أبو النّمِر بن الزّين المراغي:
إذا رُمّتَ آبارَ النبيِّ بطيبةٍ
فعِدّتُها سَبْعٌ، مقالاً بلا وَهْنِ
أريسٌ وغرسٌ، رومةٌ وبضاعةٌ
كذا بُصَّةٌ، قلْ بئرَ حاء، مع العِهن
وقال أيضاً:
بطيبةَ سَبْعُ آبارٍ فَزُرْها
ببلدةِ خيرِ خلقِ الله طَهَ
فرومةُ، بئرُ حاء، بئرُ عِهْنٍ
أَريسٌ، بُصَّةٌ، غُرسٌ، بُضَاعَه
-يتبع-