تغريد إبراهيم الطاسان
«التربية والتعليم».. عبارة تعودنا على سماعها منذ النشأة، لكننا لا نعلم أيهما الأهم، وفي طريقي للبحث عن الإجابة، وجدت ثلاثة آراء، يرى الأول منها أن التعليم أهم، فيما يرى الثاني أن التربية أهم، أما الرأي الثالث فيرى أنهما متكاملان ولا يمكن المفاضلة بينهما!
وبالنسبة لي أتفق مع الرأي الأخير، فمن وجهة نظر شخصية، أعتقد أن التربية والتعليم هما وجهان لعملة واحدة، إذ لا يمكن أن ينفصلا أو ينفكّا عن بعضهما البعض، حتى باتت العلاقة بينهما تلازمية احتوائية متكاملة الأهداف والأطراف والغايات، إذ تعد التربية ركناً أساسياً من أساسيات التعليم، ولا يمكن أن تتم العملية التعليمية بدون العملية التربوية.
وعلى الرغم من التشابك الوثيق الصلة بين التربية والتعليم، إلا أنه في بعض الأوقات، ولظروف خاصَّة، يمكن المفاضلة بينهما، فالتربية أشمل وأعم من التعليم وأكثر احتواءً للمفاهيم والقيم الإنسانية، فهي التي تصون التعليم وتحفظه، فهي أساسه وعماده الذي إن سقط فلا يمكن تعويضه، فلو افترضنا مثلاً أن الإنسان أهمل ونشأ بدون تربية، فإنه سيضيع ما تعلمه ولن تكون العملية التعليمية ناجحة بالنسبة له، فالتربية تأتي أولاً وأخيراً في المقام الأول، ومتى تربى الطالب تعلم، والتربية هي أساس بناء مجتمعات نظيفة خالية من المشاكل والانحرافات، وكم تمنيت لو يعود مسمى الوزارة لمسماها الأول وزارة التربية والتعليم.
وبعد معرفة أيهما الأهم، يتبادر إلى أذهاننا تساؤل آخر، عمن يتحمل مسؤولية الاضطلاع بالدور الأساسي في العملية التربوية لأبنائنا وغرس القيم الأخلاقية في نفوسهم، هل هي الأسرة، أم المدرسة، أم المجتمع؟
والحقيقة أن الجميع عليهم مسؤولية مشتركة ولهم دور كبير ومؤثر في تربية الأجيال الصاعدة، وتجذير وترسيخ هذه القيم في نفوسهم وحمايتهم وتحصينهم ضد كل فكر دخيل وفقاً للعقيدة الصحيحة وبطريقة التربية الحديثة التي وضعها العلماء وأصحاب التجارب السابقة، فالبيت هو البيئة التربوية الأولى والمستمرة إلى أن تكتمل مراحل البناء التربوي والمدرسة هي البيئة التربوية الثانية التي تحتضن الطفل عند أول تفاعل بينه وبين أنساق البيئة المحيطة لتكون بيئة مكملة لمسؤولية التربية بالإضافة إلى مسؤولية التعليم والمجتمع هو الحاضن الأكبر والداعم لمن أُحسنت تربيته، والمربي بقوانينه وأنظمته لمن لديه قصور في ذلك.
ولا شك أن اختلال أحد هذه الأركان أو ظهر القصور في أحدها يؤثر سلبًا على عملية بناء وتربية أبنائنا.
ولا يخفى على أحد، أن المدرسة لها الدور الأهم في العملية التربوية لأبنائنا، لاسيما عند تحوّل المسؤولية بالكامل نحو المدرسة لتعويض غياب الأسرة في خضم تفاعلات الحياة الجديدة، فلا ينكر عاقل دور المدرسة الكبير والمؤثر في تربية وبناء أجيال مثقفة وواعية قادرة على تنمية المجتمع وتطويره، لأنهم يقضون ساعات طويلة يومياً في أروقتها، ولكن هل ما زالت المدرسة تمارس دورها التربوي اليوم، في ظل الاضطراب الحاصل في المنظومة القيمية، أم أنها اكتفت بالتعليم فقط؟
من المؤسف أن نرى المدارس هذه الأيام، وقد انحصر دورها في حشو أذهان أبنائنا بمعلومات ومعارف نظرية بهدف الوصول إلى الشهادات العلمية، على حساب اهتمامها بالتربية المكملة والسليمة لتقويم السلوك، وزيادة الوعي ومن خلال غرس السلوكيات الإيجابية والقيم الاجتماعية النبيلة والأخلاق الحميدة، وبناء الشخصيات القادرة على التفكير النقدي والإبداعي والمشاركة الإيجابية، واحترام الأنظمة وتجنب الممارسات المخالفة للدين والقوانين، حتى يصبح لدينا جيل متنور متسلح بكل سبل العلم والمعرفة والأخلاق، قادر على تحمل واجباته ومسؤولياته.
كلنا أمل أن يعود الدور العظيم لمدارسنا لسابق عهده في تربية أبنائنا بجانب تعليمهم، ليصبح هذان المصطلحان اسماً على مسمى، فما من شك أن غياب أو ضعف هذا الدور ستكون نتيجته نشوء العديد من المشكلات والسلوكيات غير الأخلاقية التي يمكن للمدرسة أن تكبح جماحها منذ البداية قبل انتشارها، وذلك عبر معلمين ومعلمات هم القدوة الصالحة للجيل، ولا أخفي لكم انزعاجي من بعض الظهور السلبي للمعلمين والمعلمات في مواقع التواصل، وبثهم لمقاطع تجعلنا لا نرى فيهم ذلك القدر على حمل الأمانة وعظم المسؤولية ليكون أبناؤنا في رعايتهم، وكم أتمنى لو نسقت وزارة التعليم مع هيئة الإعلام المرئي لكبح جماح هذا التهور، وتخيير المعلم إما مهنته أو السوشال ميديا، لأن الجمع بينهما بهكذا محتوى يضر أكثر مما ينفع! وإن كان المبرر الحرية الشخصية، فللحرية سقف تقف عنده إن كانت تتعارض مع مصلحة الآخرين أو المجتمع.
إن مثل هذه الرقابة على المعلم خارج أسوار المدرسة يظهر اهتمام الوزارة؛ بجانب إكساب أبنائنا العلم؛ بغرس القيم الإنسانية النبيلة وتبني الطرق التعليمية والتربوية، التي تركز على بناء شخصياتهم وتنميتها وتصحيح سلوكياتهم الخاطئة، وجعلهم أعضاء فاعلين في المجتمع، قادرين على تحمل مسؤولياتهم في صناعة مستقبلهم المشرف والمشرق، الذي يمّهد الطريق لبناء وطنهم وتحقيق رفعته ونهضته وتقدمه وازدهاره.