عبدالرحمن الحبيب
من الشائع التعامل مع الوحدة والعزلة كمترادفتين، لكنهما ليستا كذلك بالنسبة لكثير من المختصين والمهتمين، فالأولى تبدو قسرية حين تتم مقاطعة الفرد ممن حوله والأخرى اختيارية حين يقرر الفرد الاعتزال من نفسه.. الأولى تغلب عليها المشاعر السلبية بما تحتويه من نبذ ووحشة وكآبة، بينما الأخرى تبدو إيجابية بما فيها من استقلالية وتأمل ومتعة روحية.. وقد تكون حالة بين الحالتين حين يقرر المرء الاعتزال مضطراً، كما تشير كثير من الدراسات ملقية اللوم على الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي والاجتماعات عبر الإنترنت والعمل من المنزل..
في التاريخ شواهد عديدة على الحالات الثلاث، لعل من أشهرهم في الثقافة العربية أبو العلاء المعري شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء الذي اعتزل الناس في منزله حتى لقب بِـ»رهين المحبسين»، أي محبس العمى ومحبس البيت؛ وكان نافراً من الاختلاط بالمجتمع، أو كما قال: «واهرب إلى الفضاء الإمليس من شر الجليس، والله ثاني المنفردين.» ونفى أن تكون الوحدة موحشة وحبَّذها وذكر مزاياها الفكرية والدينية والنفسية.
بالمقابل قد نجد أبا حيان التوحيدي اضطر إلى الوحدة لما وجده من رفض الآخرين لصحبته، حتى شعر بالاغتراب وإن كان بين الناس.. يقول عن نفسه: «إن حضر كان غائباً، وإن غاب كان حاضرا. هذا غريب لم يتزحزح عن مسقط رأسه، ولم يتزعزع عن مهب أنفاسه، وأغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه..».. هنا الوحدة ليست حالة جسدية، بل شعورية، فهو مع الناس جسداً ولكنه يشعر بالاغتراب والوحدة.
وفي هذا السياق يكون الأساس هو الشعور الداخلي، أو كما يُشخص ويليام شكسبير الوحدة في أحد أعماله: «الشخص الذي يشعر بالوحدة هو ببساطة وحيد.» عبر هذه الحالة الشعورية؛ أتى الشعراء الرومانسيون، لتأخذ كلمة الوحدة إيحاءات عاطفية وحالة روحية، سواء بالتمتع بالعالم الطبيعي، حيث يمكن لمجموعة من أزهار النرجس البري أن توفر «صحبة مرحة»، أو أن «تتجوّل وحيدًا كالسحابة»، حين يقدّم العالم الطبيعي استراحة من مشاعر العزلة السلبية. بهذا المعنى، ليس بالضرورة أن تنتج الوحدة أو العزلة مشاعر سلبية.. وربما من هنا جاءت العبارة الإنجليزية «»Alone but not lonely أو «وحدي ولكني لستُ وحيداً».
إنما التطورات والدراسات في القرن العشرين تعاملت مع الوحدة كمشكلة صحية بل حتى كوباء، لكن الحالة تفاقمت في السنوات الأخيرة مع الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي والعمل منفرداً من المنزل، ثم أتت جائحة كورونا لتنمى مشاعر العزلة.. إلا أن ما يتم تصويره بشكل سلبي على أنه حالة خطرة يمكن إعادة صياغته بشكل إيجابي على أنه حالة أخرى وتدعو للتفكير في مكافآت الوقت الذي يقضيه المرء بمفرده وفقاً لكتاب العزلة (Solitude) لمؤلفتيه بروفيسورتي علم النفس نيتا وينشتاين وثوي نجوين، اللتان اعتمدتا على العمل المختبري والمقابلات والاستطلاعات لإلقاء الضوء على كيفية تأثير الوحدة على النفس البشرية..
الكتاب يذكر أنه يمكن تحقيق الجانب الإيجابي من الوحدة فثمة إمكانيات تصالحية فيها، ففي عالم صاخب ومزدحم، ينبغي على الناس تخصيص الوقت ليكونوا بمفردهم، بعيدًا عن الإزعاج والإثارات التي تهدف لجذب الانتباه.. وذلك يمكن أن يفتح الباب أمام «تجارب الذروة» مثل الدهشة والروعة والانسجام وحتى النشوة، ففي العصر الرقمي شديد الاتصال والازدحام، قد لا يتخيل العديد من القراء فرصتهم في الانفصال لفترة كافية لخوض مثل هذه التجارب.
أما المستشار النفسي سام كار فيطرح تساؤلاً: عمّا إذا كانت الوحدة مجرد جزء لا مفر منه من الحالة الإنسانية؟ ويوضح أن مجموعة من الشواهد تشير «إلى أن الوحدة ليست شعورًا واحدًا بقدر ما تضم مجموعة متنوعة من العواطف والرغبات غير المشبعة» حسبما طرحه في كتابه «كل الناس الوحيدين» (All the Lonely People).
أما الفيلسوف باسكال بروكنر فيرى بمزيج من المرح والنقد الاجتماعي بكتابه الأخير The Triumph of the Slippers (انتصار النعال)، أن العالم يتقلص مع وسائل التواصل الاجتماعي لصالح العزلة الدافئة، كما يطرح وصفاً على الفترة الحالية باسم «الانسحاب الكبير»، فهو يرى أن الانفتاح الذي شهده أواخر القرن العشرين قد انتهى، وأن «إغلاق العقول والمساحات يجري على قدم وساق».
على الرغم من أن حجج بروكنر تدور في اتجاهات عديدة، إلا أن الموضوع الرئيسي له هو حاجة الناس إلى إعادة تعلم فن العلاقة الحميمة، حيث إن «العزلة التفاعلية»، التي تتيحها التكنولوجيا، ليست بديلاً عن الواقع أو «المسرح العظيم في العالم». يقدم بروكنر قائمة مرجعية لدرء مشاعر الوحدة الدائمة والمدمرة: «هل أحببنا بما فيه الكفاية، وأعطينا ما يكفي، وأنفقنا بما فيه الكفاية، واحتضننا ما يكفي؟» تستعرض مجلة الإيكونيميست هذه الكتب الثلاثة، وتتساءل إذا كانت هذه الكتب صحيحة، فإن العديد من القراء سيجدون أنفسهم يجيبون بـ«لا».