د.عبدالله بن موسى الطاير
نعود بالذاكرة لعام 2015م عندما طار رئيس وزراء بريطانيا آنذاك ديفيد كاميرون إلى واشنطن للقاء الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، طالباً منه المساعدة في الوصول لتشفير شبكات التواصل الاجتماعي الأمريكية؛ تويتر، فيسبوك وواتس أب، إلا أن أوباما خيّب ظن صديقه، ولم يكن مستعداً لتلبية طلبه بتخلي شركات شبكات التواصل الاجتماعي عن التشفير وتسمح للسلطات الحكومية بالوصول إلى الرسائل والبريد الإلكتروني باسم مكافحة الإرهاب.
بعد 9 سنوات، تطالب الحكومة الأمريكية بنقل ملكية تيك توك إلى شركة أمريكية أو حجبه عن نحو 170 مليون مستخدم على ترابها. الأمر لا يتعلق بحرية التعبير، وأمريكا كانت ستفعلها مع أي مالك غير أمريكي للشبكة، ليست الصين مستهدفة، وإن كان هذا يخفف العبء الأخلاقي على الأمريكيين، وإنما يتعلق الأمر بالسيطرة على السرد، وهي ميزة لا تريد أمريكا أن تنافسها فيها أية أمة أخرى، ولن تسمح بذلك، فالتحكم في السرد تكتيك رئيسي لتوجيه الرأي العام.
في المعركة من أجل التحكم في الرأي العام، تمتعت أمريكا بميزة فريدة، فهي المتحكم في كبريات شبكات وسائل الإعلام الجماهيرية، وبما أن القيم مشتركة مع المنظومة الليبرالية الديموقراطية فقد سيطر هذا المعسكر على تدفق المعلومات من الشمال إلى الجنوب، ووفق الرواية التي يرغبون في الترويج لها، ولم يكن هناك تحد فاعل لها من خلال الجنوب الضعيف في صناعة الإعلام الجماهري ووسائل إيصال السرد المقابل. أقنع الغرب الليبرو ديموقراطي المتلقين في الشمال والجنوب أن الأنظمة الاستبدادية بارعة في السيطرة على راوية وسائل الإعلام الجماهيري، بما في ذلك قمع وجهات النظر المعارضة، وتعزيز الدعاية الحكومية، وتشكيل الواقع الذي يخدم مصالحها، وبالتالي استنبتت في وعي المتلقي شكاً أصيلاً في كل ما يصدر عن وسائل إعلام تلك الدول، فهي متهمة بالكذب وتسييس المحتوى وتوجيهه للتلاعب بالرأي العام. قليلون الذين كانوا يدفعون بأنه حتى في الأنظمة الديمقراطية، توجد آليات خفية، ذكية ومحكمة للتأثير على السرد العام، وقد انكشفت بشكل مشين مع دخول شبكات التواصل الاجتماعي شريكاً يتحدى الرواية الغربية ويشكك فيها.
من حيث المبدأ فإن إفراط الحكومات في التلاعب بالمعلومات، يؤدي إلى تآكل ثقة الجمهور، مما يزيد من صعوبة بناء الإجماع حول القضايا المهمة، وهذا هو المعول الذي أنشبته شبكات التواصل الاجتماعي وبخاصة تيك توك في مفاصل الرواية الغربية للأحداث، وتحديداً قضايا الشرق الأوسط. وإذا كانت الديمقراطية السليمة تعتمد على التدفق الحر للمعلومات وقدرة المواطنين على تكوين آراء مستقلة، وهو الوهم الذي راج طويلاً، فإن شبكات التواصل الاجتماعي قد كشفت سيطرت الرواية الرسمية على السرد مما يعد خنقاً للمشاركة الديمقراطية المستنيرة، واستثار الشباب في الجامعات الأمريكية خاصة والغربية عموماً. لقد نشط المواطنون الغربيون في تحدي الروايات الرسمية، واستخدموا شبكات التواصل الاجتماعي وبخاصة الوحيدة الآتية من خارج المنظومة الليبرو ديموقراطية وهي تيك توك، الذي أغرق المشهد بمصادر متنوعة، وحمّل الحكومات المسؤولية عن الشفافية، وعزّز الشكوك شبه المتيقنة من التلاعب الذي ترعاه الدولة بعقول المواطنين.
المؤيدون لفلسطين في شبكات التواصل الاجتماعي في أمريكا يركزون على صور الدمار البشري والمادي المؤلمة، مع استحثاث الارتباط العاطفي بالقضية، ويسلط الجانب المعارض الضوء من خلال شبكات الاتصال التقليدية على الدوافع العدوانية عند الضحية، وتلفيق جملة من القصص التي كان العقل يقبلها قبل أن يتحول المتلقي من سلبي إلى نشط ساخر من تلك الروايات، ومتسلح بمنصات كاشفة وقادرة على محو الأمية المعلوماتية. احتدام المنافسة بين سردين لم يكن ضمن أبجديات الهيمنة التي سادت في عصر الإعلام الجماهيري؛ حالياً هناك معسكران يتحكمان في السرد، وهذا خطر محدق لا تريد الحكومات الغربية وبخاصة أمريكا له أن يكتمل لأنه يفسد عليها العقول ويحرض المشاعر.
لقد أفل عصر المتلقي السلبي، فرواد منصات التواصل الاجتماعي يستجوبون المصدر، ويبحثون عن أدلة تدعم الادعاءات، ويدفعون بوجهات نظر متنوعة لمحو أمية المتلقين التي لطالما ازدهرت في عصر الإعلام الجماهيري عندما كان المتلقي مسلوب الإرادة. التلاعب بالرأي العام يتغذى على سلبية الجمهور الذي يعتنق الرواية الأولى دون تقييم نقدي، وسرعان ما يتحول إلى بيادق في لعبة الجهة المسيطرة على الرواية. خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي ماهرة بشكل خاص في محو السلبية وتسليح المتلقي بمحتوى يعزّز معتقداته ويثري ردود أفعاله المعارضة للسرد العام.
الشباب في المجتمعات الغربية يستخدمون تيك توك لتعظيم الشكوك تجاه المعلومات التي لطالما روّجت لها وسائل الإعلام الجماهيري دونما تحد لمصداقيتها، ويشكل الجمهور المستنير من الشباب أفضل خط دفاع ضد الروايات المتلاعبة بالرأي العام، مما أفقد الحكومات والنخب الغربية ميزتها التنافسية.