مشعل الحارثي
بأسى بالغ ورزء أصاب قلبي والمحاجر، تلقيت الخبر المحزن برحيل رجل من رجالات الطائف النبلاء والمخلصين الأوفياء الذي عرفنا فيه كل معاني الشموخ والعزة والكرامة والإباء، ونبضه المشتعل دوماً بالحب والولاء للوطن، وقلبه الكبير الممتلئ أعراساً من النقاء والصفاء، ونبذ التعصب والإقصاء، ونصوصه التي كانت تخفق وتنطق بألوان من الحكمة والطرافة والبهجة، وحروفه التي خضبت حياتنا بالوعي وروح العمل والأمل، إنه الكريم ابن الكرام والأديب النحرير والصحفي القدير أستاذنا عبدالرحمن المعمر الذي طالما فاض قلبي له حباً وتقديراً واحتراماً فرحمه الله رحمة الأبرار وأنزله خير منازل الصحابة والأخيار.
والفقيد رحمه الله إلى جانب مناصبه الحكومية بديوان مجلس الوزراء فهو أحد فرسان الكلام ورواد الإعلام وسبق له أن التحق محرراً بجريدة الجزيرة وكان يشرف على عدد من صفحاتها ومنها صفحة التعليم ثم تدرج في الأعمال الصحفية حتى أصبح رئيساً لتحريرها، وسطر بقلمه المئات من المقالات في الصحف والمجلات التي عكست موهبته وأسلوبه وما تحمله من أفكار غذاها بكنوز الحكمة ورفيف المشاعر والخواطر والمخابر والمآثر فجعلت منه نموذجاً مختلفاً بكل المقاييس.
كما ألقى العديد من الأحاديث الإذاعية، وقام أيضاً بإعداد بعض البرامج الأخرى ومنها البرنامج الاجتماعي الأدبي المنوع الذي كان يذاع صباح كل يوم باسم (ورقة من التقويم) وكانت تقدمه الآنسة شهرزاد عبدالسلام.
ولمن لا يعلم فعلاقة الأستاذ عبدالرحمن المعمر بالطائف علاقة وطيدة وممتدة فقد نشأ وترعرع في الطائف وتلقى تعليمه العام بها، وفيها تفتحت نفسه على طبيعة الطائف وصباحاتها الجميلة المحناة بالورد والريحان وطيب هوائها المنعش، وقطرات الندى المتخثرة على أشجارها وزهورها فصاغت روحه وخياله، وكان لها تأثيرها في تكوينه الثقافي وميله للأدب وحرصه على القراءة المتنوعة فترجم موهبته بتلك النصوص والكتابات المتوهجة بالبلاغة المستفيقة على لسانه ووجدانه وإبداعه وبيانه الذي أطل منها على المتلقي بشواهده الشعرية لرموز الإبداع العربي قديمه وحديثه.
وفي الطائف أيضاً أسس مع صديقه وصديق والده من قبل (أبو عصام) الأديب الأستاذ عبدالعزيز الرفاعي والأستاذ محمد الزايدي (دار ثقيف للنشر والتأليف) عام 1397هـ ثم انتقلت للرياض عام 1399هـ وكان مديراً لها وأصدرت سلسلة من الكتب لكبار الأدباء والكتاب والمثقفين زادت عن أربعين كتاباً في مجال التراث والدراسات الإسلامية والتاريخية والاجتماعية والقصص العالمي الحديث، وكان له دوره ومساهمته في تأسيس النادي الأدبي بالطائف، وضمن اللجنة الإعلامية المشرفة على صدور مجلة الغرفة التجارية بالطائف في بداياتها الأولى ثم مشرفاً عليها وشارك في تقديم بعض أمسيات نادي الطائف الأدبي.
ومن ذكرياتي التي لا تنسى معه رحمه الله فلازلت أتذكر كيف كان يستقبل أغلب محبيه وأصدقائه في بهو فندق العزيزية بالطائف وكيف كان له طقوسه الخاصة في تناول مشروب الشاي فكان يقدم له الماء المغلي وهو يقوم باستكمال الباقي بعد أن يتأكد تماماً من تعقيم ونظافة كاسات الشاي.
وإلى جانب فندق العزيزية فكنت ألتقيه أيضاً في دار شقيق زوجته معالي محافظ الطائف الأسبق الأستاذ فهد بن معمر، وكذلك في مكتب جريدة الجزيرة بالطائف برفقة مدير المكتب آنذاك وابن الطائف البار الزميل الإعلامي الأستاذ حماد السالمي، وفي تلك الجلسة الصباحية والتي كان أغلبها خلال فترة الصيف يتم تناول ومناقشة ما طرحته الصحافة في وقتها من قضايا وأحداث ويطرح علينا الأستاذ عبدالرحمن المعمر في البدء الكثير من التساؤلات وكأني به يريد أن يفتح أعيننا على جوانب أخرى لقضية النقاش أو الحدث الخافية علينا ليغدق علينا فيما بعد برؤيته العميقة ونظرته الخاصة حولها مع تطعيمها بشيء من الفكاهة والظرف لكسر رتابة وجمود موضوع النقاش خاصة قضايا الأمة العربية وهذا العالم المتلاطم بالأحداث والمتغيرات.
لقد كان الأستاذ عبدالرحمن المعمر أحد المدارس الباذخة التي تعلمت منها الكثير والكثير في مجال الأدب والعمل الصحفي وقبل ذلك التواضع والرقي الأخلاقي، وإلى جانب تشجيعه المستمر لي كان يفاجئني بأنه قرأ ما كتبته هنا أو هناك في بعض الصحف والمجلات من مقالات أو تحقيقات صحفية ويضيف لي من واسع ثقافته وخبرته الصحفية أيضاً بعض الجوانب الأخرى التي ربما سهت عليّ أو لم أستكملها بسبب ضيق المساحة المعطاة في بعض الصحف للمقالات، وكم أكان يصطحبني معه لعدد من كبار المسؤولين الأقدمين والجدد لأتعرف عليهم وأجري معهم حوارات صحفية ومنهم معالي الدكتور يوسف الهاجري أول وزير للصحة بالمملكة والتقيناه في داره القديمة بالمثناة، وغيرها الكثير والكثير من هذه اللقاءات التي كنت أعود منها وقد استفدت منه حكمة أو معلومة مفيدة أو توجيهاً حسناً.
ونحن نودع فقيدنا الراحل عبدالرحمن المعمر لابد أن نستذكر بعضاً مما ساهم به في صناعة المشهد الثقافي المحلي والعربي حيث ارتبط في هذا الجانب بصداقات قوية مع جيل الرواد والكتاب والأدباء والمفكرين والإعلاميين، وكان يغشى المنتديات الأدبية والصوالين الثقافية ويشارك بها بفعالية، ونذكر أيضاً ما أثرى به المكتبة الأدبية من كتب قيمة وممتعة كان أولها كتابه (ربع قرن في الحياة والأدب والفن) فكتابه الظريف (البرق والبريد والهاتف وصلتها بالحب والأشواق والعواطف) التي تحمل الكثير من الظرف والرشاقة، ثم كتابه الآخر الذي جاء على نفس الوتيرة بعنوان (المضيفات والممرضات في الشعر المعاصر)، ثم كتابه الذي يحمل (من أوراق فاض بها الرواق) الذي اشتمل على عدد كبير من المقالات التي كتبها في عدد من الصحف المحلية، ورفض في تقديمه لكتابه أن يصنفه كسيرة حياة أوجهاد سنوات العمر أو جهاد الكلمة ونضال الحرف والبطولات الزائفة أو النضال في سبيل الشرف والمبادئ كما يحلو لكثير من الكتاب أن يصفوا ما جمعوه من مقالات ولكنه اكتفى أن يصنف كتابه هذا بقول الشاعر:
بطولتي من لسان قد ظفرت به
بعض البطولات لا تحتاج ابطالا
وقد كتب في مقالاته وكتبه عن الرجال الأعلام ورثى عدداً منهم، وكتب العديد من مقدمات الكتب وتناول الكثير من قضايا الشأن الاجتماعي والعام، وقد علمت أنه كان في سنواته الأخيرة وبسبب ضعف نظره يملي على ابنه الأكبر (بندر) بعضاً من سيرته الخاصة ومسيرته المشرفة في خدمة الوطن، وكم نتمنى من أبنائه الحرص الكبير على إخراج وطباعة ذخائره المخطوطة وسيرته في أقرب وقت ممكن لنسعد به بيننا ونقرأه من جديد برغم أنه يسكن قلوبنا ولم يغادرها رحمه الله.
لا أملك في الختام ونحن نودعه بعد خروجه من مقبرة الجسد إلى العزلة الأجمل وحرية الأبد وجوار الواحد الأحد إلا أن أتقدم بخالص العزاء وصادق المواساة وأخص بالعزاء إخوانه وزوجته وأبناءه وبناته وأحفاده وحفيداته وكافة أفراد أسرة آل معمر.. و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.