عبدالله إبراهيم الكعيد
في مرحلة مبكرة من شبابي كنت كثير القلق. لم أعرف حينها مسبباته. أُصبت تبعاً لذلك باضطراب صحي أدى إلى إصابتي بقرحة في المعدة. من مرّ بمثل تلك الحالة لا بد أنه قد زار مراراً عيادات الباطنة وراجع أكثر من طبيب واستشاري وفي النهاية أدرك متأخراً أن أحد الأسباب الرئيسة لذلك هو حالته النفسية التي أثّرت بشكل مباشر على صحته الجسدية.
في آخر محطات تلك الرحلة المريرة نصحني أحد الأطباء بمراجعة طبيب نفسي. أصابتني نصيحته تلك بما يشبه الصدمة. طبيب نفسي! ليه هو أنا معتل عقلياً؟ في الأخير اقتنعت أن مراجعة الطبيب النفسي أمر معتاد ليس فيه ما يدعو للخجل أو الخوف من كلام الناس.
ذهبت إلى طبيب النفس. وكما جرت العادة استمع الدكتور إلى شكواي طويلاً ثم سألني عدة أسئلة وهو أمر معتاد. إنما غير المعتاد قيامه بالرسم على ورقة بيضاء أمامه. رسم دائرة قسمها إلى نصفين. ظلل نصف وترك النصف الآخر ناصع البياض. قال لي: لنفترض أن هذه الدائرة تمثّل المجتمع الذي تعيش فيه. في أي قسم تعتقد أنه يمثلك ويناسب مفاهيمك. دون تردد أشرت إلى نصف الدائرة غير المظلل. ابتسم حينها وقال الآن عرفت مشكلتك.
تركّز الحوار بعد ذلك على من هو المثالي وكيف يرى من يسعى للمثالية الممارسات الشائعة المعتادة في المجتمع ولماذا يستهجنها. لم أخرج من عيادته إلاّ بعد أن أقنعني بأن عدم الوصول للكمال في حياتنا لا يعني عيباً فينا وأن السعي نحو المثالية التي قيلت لنا من قبل الآباء والمعلمين لا يعني بالضرورة صحتها أو الاستمرار في تبنيها.
استحضرت هذه الحكاية من مخازن الذاكرة بعدما وصلني كتاب من أحد الأصدقاء عنوانه (متعة عدم الكمال، تغلّب على فخ المثالية وجلد الذات لتكون أفضل نسخة من نفسك) كتبه ديمون زهاريس سرد فيه تجارب شخصية مر بها في حياته وتعلّم منها. وصف المؤلف السيد زهاريس السعي خلف الكمال بأنه وصفة للتعاسة الدائمة، وقد تبنى في محتوى كتابة الاتجاه المضاد والتأكيد على وجود متعة في امتناع الفرد عن بلوغ الكمال.
قد يستغرب البعض من دعوة كهذه ويقول من ذا الذي يرفض المثالية التامّة في أمور حياته وكيف يكون هناك متعة في عدم الوصول إليها سيّما وقد تعوّد الناس على ترديد أدبياتها والأمثال التي تحث عليها؟
شرح الكاتب بالتفصيل صعوبة إن لم يكن استحالة بلوغ الكمال، لأن الإنسان بطبيعته معرّض لارتكاب الأخطاء فمن هو المعصوم من الوقوع فيها؟
يطول الحديث حول أمر كهذا لكن الخلاصة التي أود قولها هُنا أن هنالك فوارق كبيرة بين التقصير والتخاذل في أداء المسؤوليات سواء الأسرية/ الوطنية/ الوظيفيّة وبين الهوس والسعي غير المجدي نحو الكمال المستحيل.