طلال حسين قستي
بحمد الله تنفرد بلادنا الغالية بميزة عظمية عن باقي دول العالم، وهي أنها محط الأنظار، ومهوى الأفئدة لأكثر من مليار ونصف المليار مسلم، حيث خصها الله تعالى وأكرمها باحتضان ورعاية الأماكن المقدسة كالحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة، ففي مكة المكرمة توجد الكعبة المشرفة والتي قال عنها المولى عز وجل (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ)، ومن حولها المسجد الحرام الذي تعادل الصلاة فيه مائة ألف صلاة عن غيره، وتشد إليه الرحال استجابة للأمر الإلهي لقوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)، أما الحرم النبوي الشريف فهو المزار المفضل والمحبوب لعامة المسلمين حيث مثوى رسولنا الكريم محمد بن عبدالله- صلى الله عليه وسلم- والكثير من الآثار العظيمة التي قامت مع نشوء الدولة الاسلامية الأولى وما بعدها، والصلاة في المسجد النبوي كما هو معروف تعادل ألف صلاة في غيره كما جاء في الحديث الصحيح (صلاةٌ في مَسْجِدِي أفضلُ من ألفِ صلاةٍ فِيما سِواهُ إلا المسجِدَ الحرامَ، وصلاةٌ في المسْجِدِ الحرامِ أفضلُ من مِائةِ ألفِ صلاةٍ فِيما سِواهُ).
واليوم ونحن نعيش أزهى عصور التقدم بعد أن أرسى المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن- طيب الله ثراه- دعائم هذا الكيان الكبير، وسعى بجهود كبيرة لتنفيذ الخطط والأعمال التي تتيح للمسلمين أداء فريضة الحج بيسر واطمئنان بديلا عن المخاوف التي كانت سائدة في العصر الذي سبق قيام الدولة السعودية، وانتشر فيه ذلك القول (الداخل مفقود والخارج مولود) فيحق لنا اليوم أن نفخر بما تحقق من إنجازات عظيمة منذ عهد المؤسس وحتى العهد الحالي بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- من أهمها توفير الأمن وإعمار الحرمين الشريفين وبناء الطرق ووسائل الحياة المريحة العصرية لكل زائر للحج أوالعمرة، مما شجع عشرات الملايين من كافة أنحاء المعمورة للقدوم لأداء مناسكهم وفق تسهيلات لم يسبق لها مثيل.
ولأن المملكة تسير في خدماتها وأعمالها على هدي من النهج السليم في الترحيب بضيوف الرحمن فقد جاءت رؤية المملكة 2030 وما أنتجته من برامج طموحة لخدمتهم برعاية وعناية سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان -وفقه الله- لتؤكد للعالم أن المملكة حريصة على تحقيق تحول كبير وملموس في خدمة ورعاية ضيوف الرحمن، وما شهدناه في حج العام الماضي 1444هـ من عودة كبيرة للحجاج، وما عايشناه هذا العام من وصول ملايين المعتمرين يؤكد أننا -ولله الحمد- نسير بخطى وثقة كبيرة في تحقيق طموحات رؤية المملكة.
ولأن الحج إلى بيت الله الحرام يخضع لتنظيمات وترتيبات أثبتت نجاحها عبر سنوات كثيرة من الخبرة، وما زالت تخضع للتطوير والتحسين من قبل وزارة الحج والعمرة وفق الضرورات الواجبة استناداً إلى برنامج (خدمة ضيوف الرحمن).
فإن المسار الهام الآخر في رحلة القدوم للمملكة هو مسار العمرة التي تستقطب الملايين وتدوم عدة أشهر في غير أيام الحج قد أظهر ارتباطه بالسياحة! ولذلك اخترت لهذا المقال عنوان (سياحة ما بعد العمرة) راجيا من الله أن أكون مصيباً في تلمس فكرته لواقع نتمنى أن يتطور بصورة تخدم رؤية المملكة.
وفي الحقيقة إن ما يساعد على ربط العمرة بالسياحة هو التقدم الكبير التي تشهده بلادنا في وسائل النقل والإسكان وأماكن الترفيه والتسوق والتثقيف في مختلف المدن السعودية خاصة القريبة من الحرمين الشريفين.
ولا شك عندي أن وزارة السياحة في بلادنا لديها الكثير من الخطط والمشاريع التي تسعى لتحقيقها للنهوض بالسياحة بالمملكة بهدف جعلها من أولى بلدان العالم سياحياً، والأرقام المعلنة تؤكد نجاح هذا العمل نتيجة لتسهيلات تأشيرات القدوم إلكترونياً وجهود الجوازات وكافة الجهات التي تقدم خدماتها التي يحتاجها السائح لزيارة الأماكن والمواقع التاريخية والتراثية والترفيه التي تتمتع بها جميع مناطق المملكة فنسأل الله أن يوفق جهودها في هذا الجانب.
وعودة لفكرة العنوان فإن تصوري لنمو سياحة ما بعد العمرة يتفق مع تصاعد زيادة المعتمرين سنوياً مما يحفزني لتقديم فكرتي بعيدا عن اعتماد جملة (السياحة الدينية) التي تستخدمها بعض الدول، فزيارة الحاج أو المعتمر لمكة المكرمة هي أداء فريضة الركن الخامس من أركان الإسلام وتخضع لواجبات شرعية معروفة، ولا يمكن أن تسمى سياحة دينية كما أشار إلى ذلك منذ عدة سنوات سمو الأمير خالد الفيصل مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة ورئيس لجنة الحج المركزية -حفظه الله- وكان محقا في ذلك بكل تأكيد، لأن السياحة بعد العمرة تخضع لرغبة المعتمر في رؤية أماكن ومواقع تثري ثقافته وتحمل في نفسه أجمل الذكريات وأطيب المعلومات عن بلادنا، وما شدني لهذا الطرح هو ما شاهدته شخصيا في جدة أو الهدا بمحافظة الطائف فقد كنت أرى خاصة في جدة عشرات الحافلات التي تحمل المعتمرين من مختلف الجنسيات إلى الواجهة البحرية، أوتلك الحافلات التي تصعد ببعضهم إلى منتجع الهدا للتمتع بالمناظر والأجواء الطبيعية هناك فقلت في نفسي ما أجمل هذه الصور والتي أتمنى أن تخضع لعناية خاصة من وزارة السياحة.
فعروس البحر الأحمر جدة أو محافظة الطائف قريبتان من مكة المكرمة، ومنذ أن سُمح للحجاج والمعتمرين بالخروج من مكة بدون تصريح (كما كان يتم في السابق) تزايدت أعداد المعتمرين الذين يرغبون في زيارة المدينتين لكن زيارتهما تعتبر سياحية ولا تخضع لشيء من التنظيم أو الإرشاد السياحي.
فمن هنا أتقدم بالاقتراحات التالية:
-1 إعداد دليل إرشادي سياحي خاص بالمعتمرين وبعدة لغات ويكون بحجم (كتاب الجيب) يتم توزيعه أوعرضه على المعتمرين عند القدوم إلى المملكة أو في أماكن سكناهم بمكة المكرمة، فالأدلة السياحية المعدة حاليا من وزارة السياحة ونجدها في مداخل الفنادق الكبيرة لا تخدم هدف سياحة ما بعد العمرة وإنما تخدم توعية السياح الآخرين.
-2 التنسيق الكامل بين شركات العمرة التابعة لوزارة الحج والعمرة عبر فروعها المتواجدة في مكة المكرمة والمدينة المنورة بحيث يلزم توفير التشجيع والاهتمام بالجانب السياحي من خلال الإرشاد اللازم.
-3 العناية بوسائل النقل الخاصة بالسياح المعتمرين فلا يجب أن تخضع لرغبات سائق الحافلة أو قائد المجموعة بل يجب توفير إرشاد سياحي مناسب في رحلات المعتمرين السياحية.
-4 إعداد خطة إرشادية تضمن حقوق السائح المعتمر تلتزم بها شركات العمرة ضمن عنايتها بهم.
-5 إنشاء مراكز دائمة للإرشاد السياحي في كل الأماكن التي يزورها السائح المعتمر سواء في كورنيش جدة أو الهدا أو بقية المحافظات التي تتضمنها خطة (سياحة ما بعد العمرة).
-6 التأكيد على كل من يقوم بخدمة المعتمر أن سياحة ما بعد العمرة هي خدمة تضيف الكثير من الخير لبلادنا وسمعتها العظيمة خاصة وأن أعداد المعتمرين في تصاعد كبير في أعدادهم كما أشرنا سابقا.
-7 تهيئة وتشغيل كوادر وطنية للعمل كمرشدين سياحيين لدى شركات العمرة والزيارة للاهتمام والرقي بهذا الجانب، فشركات العمرة الحالية التي تخضع لاشتراطات وتعليمات وزارة الحج والعمرة تؤدي واجبها بصورة جيدة في جانب استقبال وإسكان المعتمرين ولكن إدخال مهمة العناية بسياحة المعتمر وفق رغبته من المهام الجديدة التي يجب أن تؤديها بالتنسيق مع وزارة السياحة كما أشرنا سابقا.
-8 إقامة منتدى تحت رعاية وزارة السياحة ومشاركة بقية الجهات الحكومية المعنية بخدمة ضيوف الرحمن من المعتمرين تحت مسمى (ندوة سياحة ما بعد العمرة بين الواقع والطموحات وفق رؤية 2030).
وبعد:
فمع استمرار تطور الخدمات السياحية في المملكة، نتوقع أن يشهد قطاع السياحة ما بعد العمرة نموًا ملحوظًا، ما يفتح آفاقًا جديدة لاستقطاب المزيد من الزوار وتقديم تجارب سياحية متميزة، تأتي هذه الخطوات ضمن إطار رؤية المملكة 2030 التي تهدف إلى تعزيز القطاع السياحي وتحويله إلى محور مهم في الاقتصاد الوطني، من خلال توفير التسهيلات اللازمة وتطوير الخدمات، وتستمر الجهود المبذولة بإذن الله في خدمة ضيوف الرحمن بروح الكرم وحسن الضيافة التي تميزت بها بلادنا، إن هذه الفكرة قد تجسد التزام بلادنا بتوفير بيئة مثالية لكل من يرغب في أداء العمرة ثم استكشاف جماليات ومزايا بلادنا، هو دليل على الرؤية الطموحة للمستقبل المزدهر لسياحة ما بعد العمرة في المملكة.
وبالله التوفيق
** **
- رئيس تحرير مجلة الحج والعمرة سابقا