د.فهد نايف الطريسي
رحل الأستاذ بسلام إلى جوار ربه وقد أدى رسالته في خدمة دينه ووطنه ومليكه ويبقى أثره ممتداً في نفوس محبيه الذين حرصوا على توديعه صلاة عليه وتشييعاً لجثمانه ومشاركة في استقبال العزاء مع أبنائه وأسرته الكريمة. ربطتني بالأستاذ علاقة وصل واتصال ومحبة في الطائف منذ عملي في جامعة الطائف عام 1432 واستمرت بعد انتقالي لشقراء إلى أن اختاره الله إلى جنات الخلد إن شاء الله. لا شك أن محبي الأستاذ (وأفضل لقب الأستاذ لأن الجميع يلتف حوله كأستاذ وإن اختلفت مراتبهم) سيكتبون عن شخصه وأدبه وثقافته وقد اخترت أن أكتب عن الأستاذ الفيلسوف من وحي ما كتب أو قال.
نعم؛ ذلك أنه قد حدثت تحولات جذرية في الفلسفة؛ من السرديات الكبرى إلى الشذرات ثم إلى غير المفكر فيه، وهذا التوجه الأخير تبنته النخبة الوسطى من فلاسفة القرن العشرين كهابرماس وفوكو ودريدا وغيرهم. لقد كتب فوكو مثلاً عن العيادة، وعن المراقبة والمعاقبة، وكتب دلوز عن معاناة أوديب وكتب هبرماس عن الفعل التواصلي، ولكننا سنرى أن المفكر والفيلسوف عبدالرحمن بن معمر تميز عن هؤلاء بأنه اختط لنفسه منهجاً يجمع بين الحداثة والكلاسيكية، حتى تخرج مؤلفاته قابلة للقراءة من الجميع، فقد خلط بين المعرفة والطرفة وهو ينحو إلى مدرسة اللامفكر فيه كما في مؤلفيه: المضيفات والممرضات في الشعر المعاصر، والبرق والبريد والهاتف وصلتها بالحب والأشواق والعواطف. فابن معمر جمع بين الفكر والأدب، والجد والطرفة، ومع ذلك فهو لم يبحث لمشروعه الأدبي والمعرفي عن مسوقين، بل ظل يميل إلى العطاء بصمت، بذلك السلام النفسي الذي كان يتغشاه في لفتاته وسكناته، فانعكس ذلك على مجلسه العامر بالشعراء والأدباء والمثقفين فكان لنا دار ود إن أردنا ورودا. وكنا نستمع له حين ينطق ونستمع له حين يصمت، ففي كليهما حديث، فهو ممن امتلك شساعة السرديات الكبرى وعمق الشذرات وتبصر غير المفكر فيه. دعنا نأخذ مثالاً صغيراً حول منهجه التفكري على مستوى الشذرات: ففي حديث ماتع معه حول الجريمة والعقاب وهو تخصصي القانوني، فلقد كتب علماء الإجرام والفلاسفة حول الجريمة كحالة سلبية، ومنهم كذلك الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، ولكنهم أهملوا الجانب الإيجابي للجريمة كحالة -كما أسماها الفيلسوف ابن معمر- (تكاملية)؛ أي من منظور أهمية وجود الجريمة في المجتمعات الإنسانية، وتوسع فيها إلى وجود الخير والشر، فالجريمة لا تخلق لنا وظائف جديدة كالشرطة والقضاء والسجانين ... إلخ فقط، بل هي تحمل في باطنها تقييماً أخلاقياً واقتصادياً للمجتمع، فهي مؤشر على جودة الحياة بصفة عامة، فإذا زادت دلت على ضعف الجودة وإن قلت دلت على جودة الحياة، فنظرية ابن معمر التي أسماها بالتكاملية هي نظرية يمكنني أن أدرجها في خانة النظريات الواقعية الشاملة على اعتبار كونها تنظر إلى العالم من أعلى لتستغرق مساحات وعي أكبر بحركة هذا العالم وليست مجرد تبصرات جزئية كجزر معزولة عن بعضها البعض.
نعم؛ كان مفكرنا المرحوم عبدالرحمن بن معمر من أولئك المثقفين الذين يربطون العالم كله بخيوط دقيقة ومتشابكة، ثم يحلها خيطاً خيطاً فتخرج لنا الحقيقة مذهلة ومشوقة.
عزاؤنا لأبنائه وذويه ومحبيه بأن يعظم الله أجرهم ويجبر مصابهم ويلهمهم الصبر والسلوان.
رحم الله الأستاذ الفيلسوف عبدالرحمن بن معمر، الذي تواضع لله فرفعه، وداعين الله أن يسكنه فسيح جناته، ويجعل من علمه وأدبه وثقافته وعطائه ومحبة الناس له مورد رحمة له في دار الخلد إن شاء الله تعالى. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.