م.عبدالمحسن بن عبدالله الماضي
1 - الأشباح هم فقط الذين يأتون من الماضي، لا أشباح تأتي من المستقبل ولا توجد أشباح في الحاضر.. الأشباح لا يظهرون إلا في العتمة أو في الخيال أو حالات الهلوسة والأمراض النفسية.. الأشباح تنبع من الذاكرة والمخاوف والأوهام.. الأشباح وحش من الماضي نخشى ظهوره لنا في الحاضر أو المستقبل.. الأشباح كائنات هلامية، شفافة، دخانية البناء، ضبابية المظهر.. الأشباح لا تظهر إلا لشخص مشوش مرتبك خائف وحيد، يجتر الماضي ومنشغل به، بعيد عن حاضره ولا يفكر في المستقبل.
2 - الأفراد والجماعات المنشغلون بالماضي عن الحاضر أو المستقبل هم المرتع الخصيب للأشباح.. يبثون فيهم الأوهام ويُشْعِرونهم بالخوف، ويجعلونهم يعيشون حياة الذعر، يترقبون الصيحة من أين تأتيهم.. فهم مقيدون بالماضي السحيق يسترجعونه ويجترونه ويفسرونه ويحللونه ويؤولونه ويستنبطون معانيه ومقاصده ثم ينتظرون أن يعود لهم على أساس أن التاريخ يعيد نفسه، فيظهر لهم من فزعهم على شكل أشباح تؤكد شكوكهم وظنونهم ومخاوفهم.
3 - إذا سألت الساكن مع أشباح الماضي عن نفسه فهو حتماً سوف يرجع للماضي ويبحث فيه ويغرف منه، فينطلق في وصف نفسه وطرح أمانيه وبيان خططه لتحقيق أحلامه.. فطموحاته لا تتجاوز ما تحقق لغيره في ماضيه، وآماله لا تتعدى ما عاشه أو سمع أو قرأ عنه في ماضي أسلافه.. فهو يؤمن أن من لا ماضي له لا حاضر له ولا مستقبل.. وأن حاضره لن يَصْلُح إلا بما صَلُح به ماضي أسلافه.. وكأن مصيره مرتبط بمصير الآباء والأجداد، وأن حياته دورة مغلقة تعيد نفسها إلى بداياتها حينما تنتهي وكأنه فطر أو كائن أحادي الخلية تبدأ حياته من جديد حينما يموت!
4 - الساكن في غياهب الماضي هو شخص تحول بذاته إلى شبح.. فهو مقيد به ويجد صعوبة جمة في الفكاك والفرار منه.. فمقاييسه للتقدم كلها مقاييس الماضي، ومعاييره للنجاح كلها مأخوذة من الماضي.. إنه يلجأ للماضي للأخذ منه، وهو لا يدري أن الماضي ما هو سوى مستودع للرفات وللركام كما قال أحد الفلاسفة يوماً.. يا لها من مأساة أن يرجع الإنسان في كل أمر من أمور حياته إلى مستودع القديم والمحطم والميت والمهمل وغير الصالح ليستخرج منه شيئاً يُصْلح به حياته.
5 - حينما تسأل الإنسان عن نفسه أو سلوكه أو حاله ثم يجيبك: هذا أنا، أو هذه طبيعتي، أو لقد تعودت على ذلك، أو لا يمكنني منع نفسي، أو هذه عادات آبائي وأجدادي.. إلخ، فاعلم أنه أوثق نفسه بأغلال الماضي، فلا مجال لديه أن يتحرر أو يتقدم أو يتحسن أو يتطور أو يتغير أو يجدد حياته.. وهذه الأغلال تمنعه من أن يفكر أو يستمتع أو يستقل أو ينطلق.. لقد تحول وصار كالبهيمة المربوطة بسارية يرمى لها علفها فتأكل وتحيا وهي تدور في مكانها حتى تموت!
6 - حينما يَصِمُ الشخص نفسه بصفة ثم يربط نفسه بها بحيث يوحي لنفسه ولغيره بأنه لا يستطيع التخلي عن تلك الوصمة، فاعلم أنه شخص يعيش في الماضي ولا يعرف كيف يتعامل مع حاضره أو كيف يسير نحو مستقبله! لقد وصم نفسه بصفة بذيئة أو مهينة وتمسك بها وكأنها حقيقة حياتية معيقة لا علاج لها فأقعدته وهو متوهم، كأن يقول: أنا خجول، أو أنا عصبي، أو أنا لا أعرف كيف أستخدم أدوات الكهرباء أو السباكة، أو أنا مهمل، أو أنا موسوس، أو أنا لا أفهم الرياضيات، أو أنا أعجز عن تعلم لغة أخرى، أو أنا لا أحب الطهي، أو أنا سريع الملل، أو أنا شديد الخوف، أو أنا لا أحب اللعب واللهو، أو أنا انطوائي، أو، أو، إلخ.. لقد وضع هذا المسكين نفسه في قالب وأغلق على نفسه باب ذلك القالب وسيعيش فيه بقية حياته.