حمّاد بن حامد السالمي
* رحم الله أستاذنا الكبير الأستاذ الأديب (عبدالرحمن بن فيصل بن معمّر). لم نفقد رجلًا عاديًا.. فقدنا علماً من أعلام الأدب والفكر والأخلاق السامية. ورائدًا من رواد الصحافة والنشر والعلاقات الإنسانية المجردة من كل غرض.
* كان رحمه الله؛ يردد في مجالس المؤانسة المعهودة له قائلاً: بأن كل موظف يتقاعد، وقد ينزوي فيُنسى مع الأيام؛ إلا الأديب؛ فإنه لا يعرف التقاعد حتى الموت. وأنا أقول: بأن أستاذنا أبا بندر؛ اسم في عالم الأدب لا يموت ولا يغيب؛ حتى لو مات جسدًا، وغاب رسمه، لأنه مخلد في ذاكرة كل من عرفه داخل الوطن وخارجه. كان في حياته مؤثرًا في كل ما يقول ويكتب بشكل لا نظير له. كان رحمه الله رائدًا في التأثير إلى درجة كبيرة.
* من حسن حظي؛ أني عرفت في حياتي العامة والعلمية والعملية والأدبية أربعة من الرواد الكبار الذين حددوا مسار حياتي فيما بعد. أول هؤلاء الرواد جميعًا؛ كان والدي رحمه الله، الذي تعلمت منه العفة والاعتداد بالنفس. أما الثاني؛ فكان الخال: (عواض بن حمود العيسي السالمي) رحمه الله، الذي كان سببًا بعد الله عز وجل في دخولي في التعليم العام. أما الثالث؛ فكان أستاذي في عكاظ المتوسطة الأستاذ: (عيسى بن علي العكاس) حفظه الله، الذي كان سببًا في وصولي إلى العمل الصحافي من خلال صحيفة الندوة ابتداءً من العام 1388هـ، وكنت وقتها تلميذًا في الصف الثاني متوسط. أما الرائد الرابع؛ الذي جمع بين كافة مزايا الريادات السابقة واللاحقة؛ فكان الأستاذ الأديب (عبدالرحمن بن فيصل بن معمّر) غفر الله له؛ الذي التقيت به وعرفته عن قرب في منطلق التسعينيات الهجرية من القرن الفارط. كنت وقتها أخوض للتو تجربتي العملية في عالم الصحافة والأدب والبحث؛ انطلاقًا من علاقتي التي تجذرت بقوة مع الكتب الأدبية والعلمية في وقت مبكر. حينها؛ وجدت عند أبي بندر- أحسن الله نزله- كل دعم وتشجيع وتوجيه. دعم أبوي، وتوجيه أستاذ قدير، وتشجيع محب يفرح بنجاح الآخرين. أذكر أنه حتى بعد أن تديرت مكة المكرمة لإكمال دراستي مدة ثلاثة أعوام في ختام التسعينيات الهجرية، كان يزورني في مكة بين فينة وأخرى، يتفقدني ويزودني بمقالات أدبية له كنت أسعد بنشرها في صفحتي الأسبوعية كل يوم سبت في الندوة: (الطائف في أسبوع).
* توطدت علاقتي بالفقيد العزيز أبي بندر مع تشكيل مجلس إدارة نادي الطائف الأدبي الأول، وكان هو من الأعضاء المؤسسين، واهتممت بعد ذلك بمجالسته في (دار ثقيف للنشر والتأليف)، التي أسسها مع صديقه الأديب الكبير: (عبدالعزيز الرفاعي) رحمه الله، واحتفيت مثل آخرين كثر بالدورية الرصينة: (عالم الكتب)، التي صدرت عن هذه الدار التي ولدت في الطائف قبل رحيلها للرياض. كان رحمه الله في مقره بالطائف؛ قبلة لأدباء كبار من مختلف مدن المملكة، وخاصة من الرياض ومكة وجدة. الساسي والعطار والفودة، وآخرون يرون في الفقيد مدرسة أدبية جامعة لكل فن من فنون الحياة. كان الفقيد بكل صدق؛ قامة وهامة، في فهمه لما يدور من حوادث هنا وهناك، وما يجري من متغيرات حياتية تمس ثقافة الناس وتعاطيهم مع ما يطرح من رؤى وأفكار. كان بكل صدق؛ ملهَمًا ملهِمًا. تعلمت منه منذ البدء؛ الانصياع للحق ومناصرة الحقيقة، وأخذت عنه درسًا لن أنساه ما حييت وهو: (القراءة الناقدة). كان هو يطبق هذا الدرس على نفسه وهو يقرأ آلاف الكتب الجادة، والصحف والمجلات. حين تقرأ من كتاب أو صحيفة؛ لا ينبغي أن تسلّم بكل ما تقرأ. اعرض كل ذلك على ميزان عقلك، ثم قرر بعد ذلك.
* رأيت في أبي بندر رحمة الله عليه؛ النموذج الذي يحتذى في التصدي لكافة الأفكار المحنّطة، التي كانت تحول دون التغيير والتطوير، وترى في كل جديد محدث؛ جريمة نكراء، وتوثّن الوطن، وتعلمن وتكفر وتفسق كل من يعارض أفكارها المنحرفة.
* لن أنسى ما حييت؛ أنه كان في مقدمة الأقوياء الأوفياء الذين وقفوا معي، فآزروني ونصروني ودعموني وأنا أكتب ضد الفكر (الصعوي)، الذي صاع المجتمع وجزأه. الفكر الصديء الذي كان يعمل لصالح مشروع (الإخوان المظلمين)، من أجل فصل المجتمعات عن حكوماتها، وإخراجها من عباءاتها الوطنية، حتى تسود هي وتصل للكرسي الذي هو شغلها الشاغل، فهي دائمًا وأبدًا كما قال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: (شغلها الشاغل؛ قم لأقعد مكانك). تمت علمنتي وتكفيري، وأوذيت في عملي وسكني وحياتي، حتى أني لم أسلم من إطلاق نار على داري ذات ليلة من رمضان قبل عشرين سنة فارطة. الفقيد الأستاذ أبو بندر رحمه الله، وقف معي بكل قوة بالدعم والرأي والمؤازرة.
* أتذكر أننا كلنا كنا نعد اللقاءات التي كانت تجمعنا بأبي بندر في الطائف أو جدة من أعظم المكاسب، لما كان يتميز به الفقيد من لطف وظرف، وبديهة نادرة، وذاكرة حاضرة، وصلة بآثار من سبق ومن لحق من الأدباء والشعراء والمؤرخين والمشاهير. كان يتحدث وكأنه يقرأ من كتاب، وعكس كتابه: (المضيفات والممرضات في الشعر المعاصر)؛ وكذلك كتابه الآخر: (البرق والبريد والهاتف وصلتها بالحب والأشواق والعواطف)؛ ذلك الظرف الذي يتمتع به، وسعة اطلاعه واختياراته الموفقة عادة في تقديم ما يغري بالاستماع والاطلاع.
* لم تتوقف الحالة (الأدبية المعمّرية) لفقيدنا الغالي أبي بندر رحمه الله؛ عند حدود الطائف المدينة والمحافظة، التي هام بحبها إنسانًا ومكانًا منذ صباه؛ ولكنها حالة خاصة شملت في وقت مبكر مكة المكرمة وجدة، ثم تجاوزت الحدود إلى تونس الخضراء زمن المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة. اعتدت الاصطياف في الربوع التونسية في الثمانينيات الميلادية من القرن الفارط، فصادفت أبا بندر هناك لأكثر من صائفة، هو وصديقنا الشاعر حمد بن زيد الزيد. كانت أيامًا لا تنسى، خاصة وقد رأيت كيف كان الأدباء والناشرون التوانسة أمثال: (البشير السالمي، وعلي بو سلامة)، رحمهما الله؛ يقدرون ويحترمون هذا القامة الأدبية القادم من المملكة العربية السعودية. كانت لقاءات لا تنسى، بين مكتب (صحيفة الجزيرة) في نهج بورقيبة، ودار بو سلامة للنشر، وسيدي بو سعيد، ودار البشير السالمي في المنزه السادس. رحم الله الجميع، وألهمنا الصبر على فقدهم.
* بعد ذلك بأعوام؛ تنتقل (الحالة الأدبية المعمّرية) الجاذبة إلى العاصمة السورية دمشق، ويكون الحظ إلى جانبي مرة أخرى، فأرى وأجالس الفقيد في الغوطة وبردى، وقاسيون، عامين متتالين، هو والشاعر السوري الكبير (فؤاد بركات) رحمه الله، و(دريد لحام)، وشعراء وأدباء سوريين لا تحضرني أسماؤهم الآن.
* ماذا أقول؛ وأنا أرثي أستاذي ووالدي وأخي وصديقي والمحب الذي لم أعرف منه إلا كل نبل وشهامة وطيب.
* أسأل الله اللطف، وأن يرحم أبا بندر، ويرحم كل فقيد عزيز علينا:
أعوام وصل كاد يُنسي طولها
ذكر النوى فكأنها أيام
ثم انبرت أيام هجر أردفت
بجوى أسى فكأنها أعوام
ثم انقضت تلك السنون وأهلها
فكأنها وكأنهم أحلام