رمضان جريدي العنزي
ترك وظيفته المرموقة وعلاقاته الاجتماعية والترفيه والسفر، وحبس نفسه من أجل مرافقة والده الذي يرقد بالعناية المركزة والاعتناء به وخدمته، ينظفه ويطعمه بيده ويلاطفه ويرتل عليه الآيات الكريمة أكثر من ثلاث سنوات ونيف، ترك كل شيء ولم يشغله شاغل سوى والده، من أجل كسب أقصى درجات البر والإحسان كونها من أعظم الطاعات، وأهم الواجبات، وأجل القربات، والطريق المؤدي إلى الجنة، هذا الرجل من ذهب، يستحق الإشادة والتقدير والتحية والاحترام، لأنه مثالي بشكل عالٍ، ونموذج إنساني راقٍ، يحتذى به، ويقتدى بفعله الكريم، لقد أجاد هذا الرجل العمل الإنساني والإحساني مع والده، وبذل الجهد لإجادته ليصبح على أكمل وجه يبتغيه، امتثالاً لقوله تعالى:
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} لقد أحسن بوالده إحساناً، وتعامل معه بتواضع وخضوع، وتقدير قيمة ومكانة، وخفض له الجناح، وروض له النفس، وأذل له الروح، لقد عرف وأيقن بأن لوالده عليه حقاً وواجباً وديناً، ولأنه سبب في وجوده، وأن والده قدم إليه جميلاً ومعروفاً يعجز عن رده مهما عمل وفعل وحاول، وأن بره مقدمٌ على كل شيء، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبايعه، قال: جئت لأبايعك على الهجرة، وتركت أبوي يبكيان، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم (فارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما)، إنها عظمة الإسلام الذي جاء به سيد الخلق محمد بن عبدالله، لقد جاء رجل إلى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد فقال: (أحي والداك؟) قال نعم، فقال صلى الله عليه وسلم: (ففيهما فجاهد).
إن الأب طوال عمره يشقى ويتعب ويعمل ولا يستريح، يروح ويغدو، يجوع ليشبع أبناءه، ويعطش ليرتوون، ويحزن ليفرحون، ويناضل في الحياة لكي يستريحون، يضحي بصحته وشبابه من أجل توفير حياة كريمة آمنة وهانئة لهم، حافلة بالاستقرار المادي والمعنوي، وهو مصدر قوة وأمان، ومبعث الأنس والبركة، إن للأب حقوقاً كثيرة أقرها الشرع ووصى بها، تعظيماً له، ورفعة لشأنه، إن هذه الحقوق الجليلة باب خير في الدنيا، وجزاءٌ عظيمٌ في الآخرة، فيا أيها الابن كما أسعدك أبوك في صغرك، أسعده في كبره، آنسه ولا طفه، وأحذر ثم أحذر أن تفوتك هذه الفرصة العظيمة، اللهم اغفر لوالدينا وارحمهم كما ربونا صغاراً.