د. محمد بن إبراهيم الملحم
قبل أن أستأنف سرد ملحوظاتي، فلعله من نافلة القول أن أشير إلى بطل لهذا العمل يشارك أبطاله جميعاً النجومية وهو موسيقاه التصويرية سواء لحناً أو أداءً فخماً متناسقاً فهي حاضرة في كل المشاهد وباختلاف مواضيعها بقوة تضاهي السردية وأداء الممثلين ليصبح التنافس بين الاثنين مدهشاً لحدّ حيرتك أيهما البطل. كما أن هناك قوة واضحة في استحضار الملامح التاريخية والتراثية من خلال الأثاث والأكلات الأحسائية والعادات في الزواج ورمضان والعيد والعزاء والمواسم وكثير من التعبيرات المحلية التي تبعث عبق الماضي الجميل، أما التصوير بزواياه الاحترافية والتسجيل الصوتي المتقن والإخراج التلفزيوني فكلها تبعث على الإعجاب وتسجيل كلمة شكر وتقدير لهذا الكم من الإتقان الفني البارع.
لقد تجاوزت في تحليلي عدداً من التفاصيل الصغيرة التي ينبغي تجاوزها باعتبارها ضرورات للعمل فمثلاً سمك جدران الطين التي ظهرت لا تتجاوز 10 سنتمترات بينما في الواقع يمتد سمك جدران الطين عادة إلى ما يقارب نصف المتر، وهو ما يجعل بيوت الطين عازلة حرارياً بكفاءة، كذلك اعتبار القصة أن مجموعة من الصبيان تسلقوا بعض النخلات يمثل اعتداءً على النخل ويستدعي رفع شكوى إلى الشرطة، علماً أنه لا نتصور أحداً يشكو للشرطة صبياناً صغاراً، أما المعزب أبو موسى ظهر «يسولف» مع صبيانه عن الهند وكيف يتمنى أن يأخذ ابنته ويعيش هناك وهو أمر لا يتصور في الواقع المعاش عن «معزب» آنذاك مهما كانت طيبته، كما تبدو لنا بعض حقائب سفر أبوناظم من تلك التي في الثمانينيات بينما فترة المسلسل هي الستينيات، ولا تناسب واضحاً بين لباس الغني والفقير، كما يظهر الأولاد والرجال بسراويل طويلة بينما لم تظهر هذه بالأحساء إلا متأخراً عن ذلك، وكذلك لبس الفانلة ذات الطوق بينما كان المنتشر النوع الآخر (المسمى أبوخيوط)، كما ظهر عدد من الأحسائيين بالشماغ الحمراء وهذا غير مطابق لواقع الأحساء آنذاك حيث لم ينتشر الشماغ الأحمر بعد (وخاصة في حي الرفعة) وكانت الغترة البيضاء فقط وفي الشتاء يلبسون الغترة الشال ذات اللون البيج، ويلاحظ استخدام الخط الكوفي لمركز الشرطة وهو غير مألوف فالشائع للوحات آنذاك إما خط النسخ أو الرقعة، كما أن شعور بعض الرجال مسرحة بنظام جميل والجميع تقريباً شواربهم ولحيّهم مقصوصة باحتراف والأولاد جميعاً شعورهم محلوقة حلاقة مرتبة جداً، قد يحصل ذلك للبعض لكنه ليس للجميع بهذه الطريقة. أما الفرقة التي تطق طيران في جمعة «الحنا» لأم أحمد فمعها طبل بطريقة أهل البحرين بينما أهل الأحساء يستعملون الطيران فقط، كما أنهن جالسات بشعورهن مفتولة مكشوفة والمغنية الأساسية تلبس ثوب النشل كاشفة شعرها، بينما طقاقات الأحساء لا يفعلن ذلك وإنما يجلسن بعباياتهن وعليهن ملافعهن تغطي شعورهن! وظهر الناس يمشون بالليل كل واحد حامل سراجاً علماً أن الكهرباء متوفرة بالأحساء زمن الملك فيصل! كما ظهرت لمبة في بيت رويشد عند مدخل المنزل بالداخل وفي نفس المشهد كانت هناك عدة سرج معلقة في أنحاء المنزل! كما أنهم في العرس وضعوا شبكة لمبات في ساحة الحارة ليحيوا ليلة الزواج، تناقضات مكشوفة، وهناك ملاحظة إضافية حول الزواج تمثلت في فرش الساحة بعدة سجادات من نوعاحد على نحو ما يحدث اليوم حيث يتم استئجار سجاد (كله من نفس النوع واللون طبعاً) من محلات التأجير، بينما لم يكن هذا هو الوضع سابقاً وإنما يكون هناك تباين في الفرش لأنه يتم توفيره بشكل تعاوني من بيوت الجيران فكل واحد يتبرع بفرش من عنده وبالتالي فهي متنوعة شكلاً وحجماً ولوناً، ويدخل أبوعيسى البيت يغني «خلاص من حبكم يا زين عزلنا» وهي أغنية لفهد بن سعيد ظهرت في بداية الستينيات وهي فترة القصة لذا لا يتوقع من شخص في مثل سن أبوعيسى أن يتغنى (آنذاك) بأغنية «حديثة»!
سنترك كل هذه التفاصيل والتناقضات في شكلية العمل ونتجه الآن إلى شيء من الجوهر وهو اللهجة، محل الجدل الكبير الذي حدث عند الأحسائيين حال ظهور العمل ولن أقرر أموراً هي محل جدل وإنما سأقدم إشارات تعبر في غالبها عن حقائق واضحة ثم ربما أعرج في الحلقة القادمة على قضايا الجدل وليس لأشارك فيها ولكن لأقدم رؤية توفيقية ربما توضح لغير الأحسائيين سبب هذه الجدلية. وأبدأ أولاً بعرض الحقائق فقد وردت في النص أمثال غير حساوية بل هي غير سعودية مثل «أصوم أصوم وأفطر على بصلة» ومقولة «اللي أوله شرط آخره نور» وقولهم «ذه المعزب ما عنده يمه ارحميني»، فكلنا سمعناها في الأفلام والمسلسلات المصرية كما تعلمون جميعاً وليست ضمن قاموس رجل الشارع الأحسائي البسيط، كما أن هناك مبالغات وتكلفاً في تمثيل اللهجة من عدة ممثلين فالبطل إبراهيم الحساوي من الواضح أن لهجته الحالية لم تعد اللهجة الأحسائية الأصيلة وإنما غادرها (مثل كثيرين غيره) إلى اللهجة الشرقاوية أو ربما اللهجة الأحسائية الحديثة وهي لهجات لاتظهر فيها نغمة الحكي الأحسائي ولا هاء السكت الأحسائية في ألفاظ الملكية على نحو ماليه، رجليه...الخ، ولهذا فقد بالغ في استخدام هذه الإمالة بطريقة غير متناغمة مع سجيّته «الحديثة» في سرد الكلام، مما يكشف بوضوح صنعته لهذه الإمالات، بخلاف بعض الممثلين الآخرين الذين لا زالت ألسنتهم متمسكةً أصلاً باللهجة بما فيها من نغمة أحسائية ومفردات لذا خرجت منهم بتلقائية مقبولة جداً ويتمثل ذلك في بطل المسلسل عيسى النمر (أبوعيسى) والممثلين الأحسائيين راشد الورثان (النخلاوي) وفيصل الدوخي (رويشد) وعلي الشهابي (عتيق) والممثلات الأحسائيات المتميزات لبنى بوخمسين (أم أحمد) ومريم حسين (شيخة) وآمال الرمضان (سارة) اللاتي تألقن في هذا المسلسل لهجةً وتمثيلاً، كما نجحت الممثلة البحرينية القديرة ريم أرحمه (أم فرحان) في تقمص اللهجة الأحسائية وإخفاء بحرينيتها قدر الإمكان مع إنه يشفع لها تلك الفلتات البحرينية كون القصة رسمت شخصيتها بأن أصلها من البحرين. وانكشف تقليد اللهجة المتكلف بطريقة أذهبت طعم المشاهد المرتبطة بها لدى كل من فارس الخالدي (أبوعثمان) وسمير الناصر (أبو موسى) وسعيد قريش (أبو أحمد) فكل هؤلاء نشأتهم في الدمام أوالخبر أو سيهات أوالقطيف ولسانهم دمامي أو قطيفي لا تخطئه الأذن الأحسائية، وتكلفهم اللهجة الأحسائية مكشوف جداً، فمثلاً جملة«أقول لك» فإن الأحسائي يفتح اللام في «لك» والدمامي يكسرها، وعليه يقاس، أما لهجة الأطفال فكانت جيدة عموماً، وللحديث بقية عن اللهجة والقصة.