أ.د.عثمان بن صالح العامر
عرفت الحضارة الإسلامية ما يعرف بالتوقيع وهو في حقيقته يتماثل مع عدد الكلمات التي يغرد بها المعاصرون أو أنها أقل، وهي في الغالب أبلغ وأعمق، إلا أنها لم تكن شعبية أو على الأقل فإن ما حفظ منها ووصل لنا ذو صبغة سياسية ونخبوي بامتياز، وقد عُرف فن التوقيع من قبل أهل الاختصاص بأنه:
(عبارات موجزة يكتبها أصحاب القرار في أسفل الرقاع المرفوعة إليهم بما يتضمن الرأي فيها)، وتطوّر هذا الفن زمن الدولة العباسية واشتهر، وألحق بفن الرسائل الديوانيّة.
وأشهر الموقعون في عصور الدولة الإسلامية المختلفة حسب ما تذكر مصادر التاريخ (معاوية بن أبي سفيان، وعبد الملك بن مروان، ويزيد بن عبد الملك، وسليمان بن عبد الملك، ومروان بن محمد، والمنصور، والمأمون، والمعتصم، وسيف الدولة الحمداني، وجعفر بن يحي البرمكي، والحسن بن سهل، وزياد بن أبيه، وأبو مسلم الخراساني، والصاحب بن عباد، والمعتمد بن عباد صاحب إشبيلية، والوزير المهلبي، وصلاح الدين يوسف بن أيوب، ويعقوب المنصور، أمير الموحدين، والمنصور بن أبي عامر)، ومن بين الأمثلة التي يمكن الاستشهاد بها هنا :
- كتب طاغية الروم إلى المعتصم العباسي يتهدده، فأمر بجوابه، فلما عرض عليه رماه، وقال للكاتب اكتب: «أما بعد. فقد قرأت كتابك، وسمعت خطابك، والجواب ما ترى لا ما تسمع، وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار».
- وكتب العزيز بالله أبو منصور العبيدي إلى صاحب الأندلس المرواني يهجوه، ويذم نسبه، فكتب إليه المرواني: «عرفتنا فهجوتنا، ولو عرفناك لهجوناك، وأجبناك، والسلام»، فاشتد ذلك عليه وأفحمه.
- ووقع جعفر بن يحي في كتاب رجل شكا إليه بعض عماله: «قد كثر شاكوك، وقل شاكروك، فإما اعتدلت، وإما اعتزلت».
- ووقع أبو الربيع سليمان، أمير ناحية سجلماسة إلى عامل كثرت الشكاوى منه: «قد كثرت فيك الأقوال، وإغضائي عنك رجاء أن تتيقظ فتنصلح الحال، وفي مبادرتي إلى ظهور الإنكار عليك تنبيه إلى شر الاختيار، وعدم الاختيار، فاحذر فإنك على شفا جرف هار».
- وكتب صاحب أرمينيا إلى المهدي يشكو إليه سوء طاعة رعاياه، فوقّع في الكتاب: «خذ العفو، وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين».
- ومن مشهور توقيعات جعفر بن يحي البليغة، توقيعه لمحبوس: «ولكل أجل كتاب».
- ويحكى أن سهل بن هارون عمل كتاباً في مدح البخل، أهداه إلى الحسن بن سهل، فوقع على ظهره: «قد جعلنا ثوابك عليه ما أمرت به فيه».
- ووقّع ذو الرئاستين الفضل بن سهل وزير المأمون في رقعة بدت فيها حكمته: « إن أسرع النار التهاباً أسرعها خموداً، فتأن في أمرك».
- ووقّع عبد الملك بن مروان في كتاب جاءه من الحجاج يخبره فيه بسوء طاعة أهل العراق، وما يقاسي منهم، ويستأذنه في قتل أشرافهم: «إن من يمن السائس أن يتألف به المختلفون، ومن شؤمه أن يختلف به المتآلفون».
- وكتب نصر بن سيار إلى مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، يحذّره من أمر أبي مسلم الخراساني: «أرى خلل الرماد وميض جمر، ويوشك أن يكون له ضرام». فأجابه موقعاً: «الحاضر يرى ما لا يرى الغائب، فاحسم الثؤلول». فكتب نصر: «الثؤلول قد امتدت أغصانه، وعظمت نكايته». فوقّع مروان إليه: «يداك أوكتا، وفوك نفخ».
- وكتب قتيبة بن مسلم الباهلي إلى الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك يتهدده بالخلع، فوقّع سليمان في كتابه: «زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً ،، أبشر بطول سلامة يا مربع».
- وكتب الصاحب بن عباد على رقعة وجهها إلى قاضي قم: «أيها القاضي بقم ،، قد عزلناك فقم». فكان القاضي يقول إذا سئل عن سبب عزله: «أنا معزول السجع من غير جرم ولا سبب».
- وقّع يزيد بن الوليد بن عبد الملك في رقعة إلى مروان بن محمد: «أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيهما شئت».
- ووقّع جعفر بن يحي في قصة رجل يستمنحه، وكان قد منحه مراراً: «دع الضرع يدر لغيرك».
- وشكت امرأة إلى المأمون بن المنصور جندياً نزل دارها وآذاها فوقّّع على رقعتها: «يخرج هذا النازل، ولا يعوّض بشيء من المنازل».
- وشكا رجل إلى زياد عقوق ابنه فوقّع في ذلك: «كان عقوق الولد من سوء تأديب الوالد».
هذا شيء مما حفظته صفحات التاريخ، ولم يسجل لنا المؤرخون كم عدد الروتات والهشتاقات والمتابعين لتلك التوقيعات التي هي بمثابة تغريدات اليوم، وجزماً سيحفظ التاريخ تغريداتنا المعاصرة بشكل أكثر تقدماً وعلمية، فماذا ترانا سنقول للأجيال القادمة عن زماننا الذي نعيشه بكل تفاصيله وانكساراته، دمتم بخير وإلى لقاء والسلام.