د. عبدالحق عزوزي
يظن البعض أن مسألة تحالف الحضارات والتنوع الثقافي من المواضيع القديمة التي لم تعد تشغل بال المسؤولين والمؤسسات والأفراد؛ ولكنها عادت بقوة في الآونة الأخيرة بسبب كثرة المهاجرين واللاجئين في العالم، وبسبب صعود تيارات مناوئة لهم، والإسلاموفوبيا التي بدأت تطال الملايين من المسلمين، وغيرها من الويلات التي تقوي الانفصام بين ممثلي الحضارات والثقافات المختلفة... كما تكونت نظريات دولية في هذا المجال ومدارس سعت خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية للتأصيل العلمي لهاته المفاهيم، ولكن للأسف الشديد مال العديد من المنظرين عن جادة الصواب عندما أشاروا إلى الحضارة الإسلامية على أنها نقيض الحضارات المتحضرة وأنها تحمل في ثناياها فيروسات تقوّض مسائل التعايش بين الأمم والشعوب، لتعطي لصناع القرار نظريات مغرضة في باطنها حقد دفين لتاريخنا وثقافتنا وديننا... ونعلم أنه في الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً توجد الآلاف من مراكز الأبحاث في مجال العلاقات الدولية والاستراتيجية التي تخوض في مثل هاته المواضيع، منها مراكز الضغط السياسية التي تستخدم نتائج أبحاثها للضغط على الإدارات الأميركية في صناعة القرار كـ»مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية» الذي يضم نخبة من السياسيين والأكاديميين البارزين كهنري كسنجر وهارولد براون.. الخ؛ كما يمكن أن نجد مراكز خلقت للدفاع عن مصالح إسرائيل كـ»معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى»، والمعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي للدعاية لإسرائيل في المجالات الأمنية والعسكرية أو ما يسمى بالأذرع الفكرية الإسرائيلية في واشنطن، وتسعى العديد من الدراسات المنبثقة من هاته المراكز النافذة إلى تبني وتطوير نظريات صامويل هانتنغنون وبرنارد لويس الذي أتته المنية مؤخراً....
فالعديد من الدراسات الغربية تصفنا عندما تتناول مسألة التفاعل الحضاري، أننا بشر خارج التاريخ، وديننا الوسطي ليس بدين يسمح بمثل هاته التجاوزات، بل الأدهى من ذلك أنهم يقولون إنه لو سلموا بالعكس، ما وجدوا في تاريخ الأوطان العربية ما يمثل روح السماحة في علاقة المسلم بالآخر...وهنا المصيبة الآزفة حيث الصور النمطية والخزعبلات التي تعج بها وسائل الإعلام الغربية عن الإسلام والمسلمين، خاصة في هاته الفترة الحرجة من تاريخ العالم مع الإرهاب وبدء وصول التيارات اليمينية المتشددة أو المحافظة في الدول الغربية إلى كراسي الحكم.
ولكن للذاكرة والتاريخ، لم يكن للمسلمين يوماً من الأيام مشكل في الحوار ولا في التعايش السلمي ولا في بناء الأسرة الإنسانية الواحدة ولا البيت المجتمعي المشترك، ولا في بناء حضارتهم التفاعلية، انطلاقاً من تعاليم دينهم الحنيف؛ فلقد التقى المسلمون بعد فتوحاتهم على امتداد القرن الأول الهجري مع شعوب كانت على جانب كبير من الحضارة وازدهار الثقافة، كالفرس والرومان والهند، ووقع التمازج والتلاقح...
عندما تزور هولندا مثلاً، الدولة التي يتصاعد فيها ممثلو الأحزاب اليمينية المناوئة للأجانب، سترى الكم الهائل من ممثلي الحضارات والثقافات في الشوارع والمؤسسات والأبناك والمتاجر، وستخرج بيقين أنه رغم معارضة السياسيين لهاته الظواهر الإنسانية الطبيعية، فإنهم لن يستطيعوا تغييرها لأنها مكون من مكونات التاريخ القديم والحديث؛ ومهما كانت نوعية الحضارة، إفريقية كانت أو إسلامية أو غربية أو غير ذلك فهي نتاج تلاقح عدة شعوب وأعراق شتى، تنتمي إلى ثقافات متعددة تصب جميعها في اتجاه تتشكل منه الحضارة، فهي إذن لا ترتبط بجنس من الأجناس، ولا تنتمي إلى شعب من الشعوب، على الرغم من أن الحضارة قد تنسب إلى أمة من الأمم أو إلى منطقة جغرافية من مناطق العالم على سبيل التعريف ليس إلا، بخلاف الثقافة التي هي رمز للهوية، وعنوان على الذاتية، وتعبير عن الخصوصيات التي تتميز بها أمة من الأمم، أو يتفرد بها شعب من الشعوب، فالحضارة وعاء لثقافات متنوعة تعددت أصولها ومشاربها ومصادرها، فامتزجت وتلاقحت فشكلت خصائص الحضارة التي تعبر عن الروح الإنسانية في إشراقاتها وتجلياتها وتعكس المبادئ العامة التي هي القاسم المشترك بين الروافد والمصادر والمشارب جميعاً... كما أن الحوار لا يمكن أن يكون بين الحضارات والثقافات، ولكن بين ممثلي الحضارات والثقافات، لأن الحضارات والثقافات كيانات معنوية لا تتحاور فيما بينها، فأصحابها انطلاقاً من الموروث الحضاري والثقافي عندهم هم الذين يتحاورون فيما بينهم، فقل نوع الأجيال التي يربيها البلد أقل لك نوع الحضارة الممكنة!