د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
قرأ ابني النجيب الأستاذ عبدالرحمن الآنسي ما كتبته عن (لا زال)، وأهداني ملحوظاته القيمة التي ستفيد عند إعادة تحرير الكتابة، وكأنما توقف في الأمر؛ لأنه يقول «ثم رأيت في كتب التراث مواضع كثيرة استُعمل فيها (لا) مع الفعل الماضي لغير الدعاء، وكنتُ أُقيِّدُ كلَّ شاهد أقف عليه، وبعض هذه المواضع قد يُفهَم منها الدعاء على بُعدٍ،»، وسأقف عند أول نصّ ذكره وهو أهم نصّ أشار إليه النحويون أيضًا.
ولبيان الأمر أذكر قول أستاذنا تمام حسان -رحمه الله- «اللغة أوسع من قواعدها»، وقول النحويين إن الأصل في الحرف (لا) أن ينفي المستقبل، قال ابن يعيش (643هـ) «وأمّا (لا)، فحرفٌ نافٍ أيضًا، موضوع لنفي الفعل المستقبل، قال سيبويه: وإذا قال: (هو يفعل)، ولم يكن الفعل واقعًا؛ فنفيُه: (لا يفعل)، فـ(لا) جوابُ (هو يفعل) إذا أُريد به المستقبل، فإذا قال القائل: (يقوم زيدٌ غدًا)، وأُريد نفيُه، قيل. (لا يقوم)؛ لأن (لا) حرفٌ موضوعٌ لنفي المستقبل»(1).
وبينوا أنّ (لا) إن دخل على ماضٍ فهو بمعنى (لم) التي تنفي الماضي، وأنّ الأفصح تكرارها، جاء في معجم العين «وأمّا قَوْله: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ)[11-البلد] فـ(لا) بمعنى (لم) كأنّه قال: فلم يَقْتَحِمِ العَقَبة. ومثله قوله عز وجل: (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى)[31-القيامة]، إلاّ أنّ (لا) بهذا المعنى إذا كُرِّرت أَفْصَحُ منها إذا لم تُكَرَّرْ، وقد قال أميّة:
وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لَا أَلَمّا
أي: لم يُلْمِمْ»(2). وإن كانت بمعنى (لم) لا يلزم تكرارها وسيأتي ذكره.
ولأن اللغة أوسع من قواعدها نجد في نصوصها العالية ما هو خلاف الأصل، فنجد دخول الحرف (لا) على الماضي، ولكن هذه النصوص لا تنقض القاعدة العامة؛ لأن القاعدة أغلبية؛ ولذلك عبر النحويون تعبيرًا دقيقًا عن هذا كما نجد في قول الفراء (207هـ) «لأن العرب لا تكاد تفرد (لا) في الكلام حتى يعيدوها عليه في كلام آخر»(3). ونفهم من نص الفراء هذا أن (لا) يرد بعدها الماضي؛ ولكن ذلك قليل، وربما كان على سبيل الاتساع في اللغة، وربما أتاح ذلك تعددًا في فهم النص.
جمع لي الأستاذ عبدالرحمن الآنسي جملة مواضع، ومن أشهر المواضع التي رأى النحويون (لا) داخلًا فيه على الماضي قوله تعالى (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) [11-البلد]، ولا يرى النحويون أنَّ هذا معاند للقاعدة؛ لأنّ له تأويلًا يفسره، فالفراء يبين لنا ذلك، قال «وهو مما كان في آخره معناه، فاكتفى بواحدة من أخرى؛ ألا ترى أنه فسر اقتحام العقبة بشيئين، فقال: (فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ)(4). قال الزجاج (311هـ) «والمعنى في (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) موجود أن (لا) ثانية كأنَّها في الكلام، لأن قوله: (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) [17-البلد] تدل على معنى فلا اقتحم العقبة ولا آمن»(5).
التكرار معنوي هنا كما أوضح الشريف المرتضى (436هـ) «وقلّما يستعمل هذا المعنى من غير تكرير لفظ.. إلا أنَّ في الآية ما ينوب مناب التكرار ويغني عنه، وهو قوله تعالى: (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) [17-البلد]؛ فكأنه قال: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، ولا آمن؛ فمعنى التكرار حاصل»(6). وقال الزمخشري (538هـ) «هي متكررة في المعنى»(7).
وتهب الآية الكريمة معنى آخر هو الدعاء، قال الشريف المرتضى «والوجه الآخر: أن تكون (لا) جارية مجرى الدعاء؛ كقولك: لا نجا ولا سلِم، ونحو ذلك»(8). قال أبو حيان (745هـ) «دُعَاءٌ عَلَيْهِ أَن لَا يَفْعَلَ خَيْرًا»(9). وهذا المعنى هو ما يتبادر إلى ذهني.
وقد تكون (لا) بمعنى (لم) أي استعملت استعمالها توسعًا، قال الفارسي (377هـ) «ومعنى: فلا اقتحم العقبة لم يقتحمها، وإذا كانت (لا) بمعنى (لم)، لم يلزم تكريرها، كما لم يلزم التكرير مع (لم)»(10).
وربما فُهم منها معنى التحضيض، قال الشريف المرتضى «وقال قوم: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ أي فهلّا اقتحم العقبة!) أو أفلا اقتحم العقبة! قالوا: ويدل على ذلك قوله تعالى: (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) [17-البلد]، ولو كان أراد النفي لم يتصل الكلام. وهذا الوجه ضعيف جدًّا، لأن قوله تعالى: (فَلَا خالٍ من لفظ الاستفهام، وقبيح حذف حرف الاستفهام في مثل هذا الموضع»(11). قال أبو حيّان «وَلَا نَعْرِفُ أَنَّ (لَا) وَحْدَهَا تَكُونُ لِلتَّحْضِيضِ، وَلَيْسَ مَعَهَا الْهَمْزَةُ»(12).
والخلاصة أنّ (لا) في الآية الكريمة مراد بها الدعاء فتكون على القياس، أو مراد بها النفي حملًا على (لم) فلا يلزم تكرارها، أو مراد بها النفي المقتضي التكرار وجاء تكرارها في المعنى لا في اللفظ.
والمواضع الأخرى التي تفضل ب ذكرها الأستاذ عبدالرحمن الآنسي لا تخرج عن تلك الاحتمالات، فمنها ما جاء فيه (لا) للدعاء، ومنها ما جاء محمولًا على (لم) فلا يلزم أن يكرر.
**__**__**__**__**
(1) شرح المفصل لابن يعيش، 5/ 33. وينظر: الكتاب لسيبويه، 3/ 117.
(2) العين للخليل بن أحمد، 7/ 350.
(3) معاني القرآن للفراء، 3/ 264.
(4) معاني القرآن للفراء، 3/ 264-265.
(5) معاني القرآن وإعرابه للزجاج، 5/ 329.
(6) أمالي المرتضى غرر الفوائد ودرر القلائد، 2/ 289.
(7) الكشاف للزمخشري، 4/ 756.
(8) أمالي المرتضى غرر الفوائد ودرر القلائد، 2/ 289.
(9) البحر المحيط في التفسير، لأبي حيان الأندلسي، 10/ 482.
(10) الحجة للقراء السبعة لأبي علي الفارسي، 6/ 414.
(11) أمالي المرتضى غرر الفوائد ودرر القلائد، 2/ 289.
(12) البحر المحيط في التفسير، لأبي حيان الأندلسي، 10/ 482.