أ.د.عبد الله بن سليم الرشيد
منذ حين، قد يبلغ العَقْدين، أسمعني شابٌّ حيِيٌّ لطيف المظهر والمخبر، بعضَ قصائده، واختلف إلى مكتبي بضع مِرار، إبّان عملي في كلية اللغة العربية بالرياض، وشَدَهني ما سمعتُ، إذْ كان في غَيْسَان صباه، وعنفوان فتوّته، وما سمعتُه منه يوهمُ أنه ينتحلُ الشعر، وأنه ليس من مَقُوله، ولكنه له، من بُنيّاته اللطاف، وخرائده الظّراف، ووقر في قلبي أنْ سيكون له شأن في الشعر؛ إذْ كانت قصائده ملوِّحةً بمولد شاعر شاعر، وأنّه يصدرُ عن موهبة فاذّة، ومعرفة متقنة بعالم الشعر.
ثم رأيته ينشر بعض شعره، ولم يلقَ الحفاوة اللائقة به، وفي هذه السنين المتطاولة، كان يبعثُ إليّ بين الفينة والفينة قصائد، يلتمس فيها الرأي، ويتواضع لي، وهو أقدر مني على معرفة الجيّد من الرديء، فكنت أحضُّه على النشر، حتى يجد شعره متنفَّسًا، ويلقى الإشادة التي هو أهلها.
أعجبني في شعر فهد عنايته الفائقة بالتركيب المدهش، والصور البارعة، فهو مجيدٌ في الصياغة، عازفٌ عن التقليد، وإن بدا أنه متأثر ببعض الشعراء المعاصرين، ولا ذمّ في هذا فما الليثُ إلا عدة خرافٍ مهضومة، على ما قيل.
لفهد ضَميمة شعر ونثر، عنوانها (شخصٌ لأوهام الرواة)، تجلى فيها، فهو شاعر في نثره، متناثر الإبداع في شعره، وحيثما قرأت استوقفتني ضروبٌ من الإبداع، والتجليات الفنية، الواشية بما عنده من قدرة أدبية، وتمكّن لغوي، واقتناص لشوارد الفكَر، ففي بعض نثره قال: «كتبتُ في حياتي قصائدَ كثيرة، فقال الآخرون: سخيفة! فلم تذرف عيني دمعةً واحدة، حين تأرجحت قصائدي على مشانق الآراء». وفي هذا القول ما ينبئ عن الشجا والشعور بالخيبة من المتلقين؛ وهذا ما جعله كثير التعرّض للشعر بوصفه صاحبًا وخليلًا، يبثّه مواجده، ويحمّله أشواقه.
وبلغ به الأمر أن جعل عنترة (المنبوذ) معادلًا موضوعيًّا لتجربته الشعرية، قال:
تعالي، هنا ماتت أباطيلُ شاعرٍ
وعنترةُ المنبوذُ أنهى معاركَهْ
تعبتُ وجرحي الآن يركضُ طافحًا
على ثُلمة في السيفِ، أنثى وحالكهْ
وكثيرًا ما يظهر هذا الشجن في تضاعيف شعره، قال:
ذعري من النظرات ذُعرُ قصيدة
لقيتْ على مُهجِ القلوبِ حجابا
ما أنت؟ وانكفأت سِلالُ قريحتي
عبثًا وعُدن إلى الشعور عقابا
وفي قصيدة أخرى:
يقول لي العرّاف حرفُك عالقٌ
بمحبرة خرساءَ تنهشُها الذكرى
إذا شئتَ أعتقت الظنونَ وإنما
لك الغسقُ المختومُ من ذاتِه يَعرى
وفي ثالثة:
عاتبتِني حين صار الصوتُ في ورقي
ثلجًا وصار الصدى عهدي لأحفادي
أوغلتِ في حوزة التَّسْآلِ سحرَ غدٍ
مذبذبٍ بين تضييع وإيجادِ
وكان من السخريّة البالغة أن ينعت نفسه بالشُّويعر! ولكنه (شُويعر) يعرف كيف يخاطبُ متجاهليه، أو الغامزين من قيمة شعره:
أنا الشويعرُ لا تدرين كم خلَقتْ
فيّ الأساطيرُ كونًا دون أبعادِ
أنا الشويعرُ مجنونٌ وفي أرَقي
يستدفئ التيهُ لا يلوي على حادي
لا تسألي كيف وارى الصمتُ ما حبلتْ
به الأباريقُ من إيحاءِ آمادي
والحزن ومعجمه اللغوي يتردد كثيرًا في شعره:
أداعب أهدابَ السؤال ونبرتي
كثيبٌ من الأشجان يسترق الصبرا
ومن أخرى:
دعني لأشجاني أراهنْ لوعتي
أن تنسجَ الأكفانَ قبل جفافي
وفي شعره حشدٌ من التراكيب الموغلة في جدّتها، المدهشة بطراوتها، تجيء في صور متناسلة، تنقل القارئ من دهشة لذيذة إلى أخرى ألذّ:
عَقْدان مرّا وهذا الشيبُ يقذف بي
في شهوة الحبر مطعونًا بأعيادي
عَقْدان ما هرول الإنشادُ في شفتي
إلا ليمزج أضدادًا بأضدادِ
وأمتع ذائقتك بهذا التجلي:
هبني لثغر اللغز أجملَ ضحكةٍ
هتكت غشاءَ الطيفِ دون زفافِ
تسري على زبَد الحُداء كأنما
بخلتْ بنشوتها على الأحقافِ
أنا ذلك البدويُّ أنحَتُ قامتي
سمَرًا لجفن الغيم والأضيافِ
وخذ نصيبك من اللذة هنا:
أشكُّ في ذمّة الينبوع كم خدعتْ
من ظامئٍ أجّلَ الإيثارُ أعيادَهْ
عجبتُ منكِ وقد هيّأتِ لي وسنًا
بِكرًا ونفسًا إلى الأحلامِ منقادهْ
تستعذبين غموضي؟ إنني رجلٌ
طوى وراء كروم الوهم ميعادهْ
وهكذا لن تترك قصيدة إلا وقد علِقت بذائقتك جمالًا وهيبةَ إبداع:
الحبرُ والشعرُ قربانان في شغفي
تعانقا لحظةَ العرفان فانتبذا
وحين أتخمتُ بالظلماءِ نافذتي
تخذتُ عينيك قنديلين فاتخذا
ستفهمين مع الأيام أجوبتي
إذا توضّأتِ بالأشعار.. قلتُ (إذا)
وقِفْ مليًّا على قوله:
بَينَ النَّقيضَين أوراقُ الهَوى وَ يَدي
تَمْتَدُّ نَحْوَ يَراعي الآنَ مُرْتَجِفَهْ
إذْ كَيفَ أحْشُرُ وَجهي في مَلامِحِهِ
والذَّاتُ في حَوزَةِ الأضدادِ مُعْتَكِفَهْ
و البَحْرُ رَحْبٌ بِما يَكْفِي لِراهِبَةٍ
مَكلُومَةٍ وَ عَفِيفٍ مُسْبِغٍ أسَفَه
وانظر في قوله عن المتنبي، وما أكثر ما قيل عنه! ولكنْ لن يبقى سوى التجليات التي تكسر آفاق الانتظار:
إنه الشاعرُ الذي قال كلّا
للرؤى حين أوشكتْ أن تريحَهْ
وتحدّى حوريّة من نُعاسٍ
تعتري طارفَ الهوى لتزيحَهْ
وتأمّل حسيس الرغبة في أن يفي للشعر، وأن يكون له أهلًا:
سَيَعْجَبُ النَّاسُ حَتْماً مِنْ مُساجَلَةٍ
وَ وقُبْلَةٍ تَبْلُغُ المَعنَى بِغَيرِ شَفَهْ
وفهد يتغزّل، ولكن ليس كغزل المقلّد أو الممتاح من ذاكرته، بل يفجأ المتلقي بصور عميقة الدلالة:
لا تهربي، قفصُ الأشعار من غزلٍ
قُضبانُه، تسألُ التأنيثَ عُصفورهْ
لا تهربي فكنوزُ الجفنِ من أرقٍ
أشهى، وجنّيةُ الإلهام مبهورهْ
تفرّ من سطوةِ المألوفِ – ما ارتجفتْ
كفُّ القصيدِ- وتأتي بعدُ منثورهْ
وإحدى قصائده جاءت على بحر (المنسرح)، وهو متروك إلا قليلًا، مع ما فيه من ثراء النغم، وفهد مقتدر عليه، متحكّم فيه، فلم تمنعه جلالة هذا النغم من أن يظلّ وفيًّا للغة الشعر وعالمه الرحب:
يا من نظمتِ الكؤوسَ هازئةً
لا تعصري النخبَ بعد ميقاتِهْ
واستلهمي للأريجِ أرديةً
فضّاحةً من ندى مجرّاتِهْ
لا تسألي من أنا فذاكرتي
بحرٌ يعاني عقوقَ موجاتِهْ
والعنوان عنده ضربٌ من الإبداع، يبدو من صياغته إياه أنه يعيد فيه ويبدئ، حتى يبلغ الشكل الذي يرتضي، فيكون مدهشًا بما فيه من لغة شعرية عالية. ومن عناوينه (الكنايات مسافات مشاغبة)، (الفتاة الراهبة...الفتاة الهاربة)، (قبائل النسرين...هامشٌ على قرطاس المتنبي)، (بيروت وأحاديث العرّافين...قراءة لأقداح الأنين)، (شتاءٌ في جوار القلب)، (جدال على هوامش الرمل)، (البيداء والجنين المرتقب، تحيتان للأنثى)، (محاريب الحيرة، حيرة الفراديس)، (كالنصل تثلمه الوردة)، (شاعر في برزخ الأجوبة).
وتحتشد في شعر فهد رموز وعلامات، من أسماء أعلام وأماكن، تحملُ رؤى وفكَرًا، يتحدّث بتلك الرموز ويستدعي دلالاتها، فيُغمضُ حينًا، ذلك الغموض اللذيذ، الذي يأخذ بك إلى آفاق التأويل، ورحاب الدلالات المتوارية، يقول:
وخذنا إلى أم القرى تلك رحلةٌ
تعيد السنا المأثور عن رحلة الهادي
وزِدْ يثربَ الزهراءَ قسطًا مقدَّسًا
من العشق إذْ يغشى محاريبَ عُبّادِ
وفي أخرى:
فلشهرزاد الآن ثورةُ لحدها
ولها الشواطئُ نورسًا وعُبابا
ولشهريارَ زوارقُ القلق التي
مخرتْ وراءَ الأمنياتِ سرابا
وفي ثالثة:
فما زال ديكُ الجنّ عرّابَ ومضة
ينوءُ بها الفانوسُ من غيهبِ النزقْ
وبعد حين فاجأني فهدٌ بقصيدة قال: إنه أهداها إليّ وإلى الأخ العزيز عبدالعزيز النصافي، فيها ما عهدته في شعره من جمال وبهاء، كان منها:
بادِرْ جُروحَكَ ! إنَّ الشِّعرَ سانِحَةٌ
ما أقرَبَ اللَّحظَةَ المُثلَى وَأضْيَقَها
تَأتِيكَ مِنْ غامِضِ الإملاء في لُغَةٍ
عُلْيا ! كأنَّ ضَميرَ الغَيبِ أغلَقَها
حَتَّى إذا نَاهَزَتْ أوجَ الهُيَامِ طَغَى
بَيتُ القَصيدِ فأدناها وَعَتَّقَها
وما الشعر عنده؟ يقول:
الشِّعرُ أنْ تَقْبِضَ الأرجاءَ في صَدَدٍ
وَأنْ تُسَرِّحَها طَوراً وَتَرْمُقَها
الشِّعرُ مُعْتَرَكُ الأبعادِ! إنْ زَهِدَتْ
تَفَاقَمَتْ! وَيَؤُزُّ الشَّوقُ أفْسَقَها
الشِّعرُ هَروَلَةُ الأشْيَاءِ مُذْعِنَةً
لِلحَدْسِ! حَرَّضَ ألباباً فَأعْتَقَها
ويظهر عنده همّ الشعر، أن يتجلّى فيه، وأن يقول ما لم يُقَل:
وَالشِّعْرُ؟! حَتَّى دَبِيبُ الشِّعْرِ في أرَقي
يُفْضي إليَّ وَ لَكِنْ طافِحاً أنَفَهْ
أسعى و غَرْغَرَةُ الأحبارِ تَحْمِلُني
إليكِ ذاكرةً مَجروحَةً خَرِفَهْ
ويعطف النظر في شعر فهد أن جُلّ قوافيه مقيّدة الرويّ، ما الذي ينبئ به هذا؟ أهو محض اتفاق؟ لا أرى هذا، بل هو شعور كامن في نفسه بأنه مقيّد، عاجز -لأسباب خارجة عن إبداعه – عن إيصال صوته، وفي الرويّ المقيّد أيضًا سعةٌ للشاعر إذْ لا يُضطرّ إلى مراعاة الإعراب، وربما كان هذا مهربًا للشويعر أو الشُّعرور، ولكنّ فهدًا شاعر مفلق، لا يختار المقيّد إلا قصدًا، ولم يضطرّه إليه عجز أو إجبال.
إن بقاء الشاعر المبدع في الظلّ جناية، وما أحرى أن تنهد مؤسسة ثقافية أوجهة ناشرةٌ لطبع ديوانه! حتى تقدّم طبقًا من الإبداع لعشّاق الكلمة المجنّحة.
خلاصة القول: فهد أبو حميد (شاعر يجري ولا يُجرَى معه).