د.نادية هناوي
السيرة نوع سردي أساسه شخصاني، ومن ثم يكون الصدق هو المحتم الأساس في تأثيرها في القراء بحسب ما تكشفه من حقائق وأسرار. واليوم تلقى السيرة رواجا على الصعيدين: 1 (الإنتاجي بدءا من رؤساء الدول وانتهاء بالسياسيين والرياضيين والفنانين،)2 الاستهلاكي حتى لا نكاد نجد دار نشر لم تنشر سيرا، بل إن المترجمين صاروا يتبارون في ترجمة الأعمال السيرية الأجنبية. علما أن السير تتعدد وجوهها وأقنعتها بتنوع هؤلاء الذين يكتبونها وتباين تجاربهم، ولكن المتفق عليه هو أن السيرة سرد يحكي للحاضر والآتي ذكريات ما مرَّ بصاحب السيرة من تجارب وخبرات ومشاهدات ومواقف بدءاً من الطفولة ومروراً بالصبا والشباب بكل ما فيهما من اكتشاف واصطدام واندفاع ووصولاً إلى الحاضر الذي عادة ما تكون فيه الشخصية قد بلغت عمراً ليس بالقصير اكتملت فيه خبراتها ونضجت تجاربها وصار لها عطاؤها الذي فيه كثير من الأسرار التي تستوجب المكاشفات والتي لا تخلو من المحن والآلام.
وعلى الرغم من محاولة فيليب لوجون عد السيرة جنساً، فإن ذلك لم يتحقق له، والسبب عدم قدرة السيرة على إرساء حدودها التصنيفية بمعيارية تضع لكتابتها مواضعات يسير على وفقها الكاتب، هذا فضلا عن أن الرواية لها من الرسوخ ما يجعلها عابرة أجناسياً على أنواع السرد الأخرى ومنها السيرة بنوعيها الذاتي والغيري.
وما دامت السيرة نوعا، يغدو ممكنا لأي أحد أن يدوّنها شريطة أن يمتلك خزينا ثريا من التجارب الشخصية، وأن يكون ذا ذاكرة طيعة على الانثيال فلا تلتقط ما علق في تجاويفها من أحداث فقط، بل تستفرغ كل محتويات تلك التجاويف فهي كالصندوق الذي كلما أزيل الغطاء عنه انكشف ما بداخله أكثر. وهذا هو الفارق بين السيرة بوصفها انثيالات والمذكرات بوصفها التقاطات. فالسيرة هي مجموع الذكريات التي منها نصنع شريطاً متحركاً ومرئياً يختزل عمر الشخصية كلها.
وأكثر السير تأثيرا في القراء هي التي تكشف عن تجارب غزيرة وتقدم دروسا عميقة، ومن ذلك السير التي يكتبها الشعراء. وقد يخلط بعضهم بين مسميات ( القصيدة السيرية) و(السيرة الشعرية) واصفا الأخيرة بأنها (سرد نثري)!! وهذا بمثابة نسيان لأهم مقوم من مقومات كتابة السيرة وهو الانثيال الذاكراتي الذي تتطلبه الأنا الساردة كشفا وبوحا حتى أن الشاعر كلما دعته أناه الشعرية إلى الارتقاء بلغته، سحبته الأنا السردية إلى الواقع وأنزلته من عليائه؛ هذا فضلا عن حقيقة أن السرد فعل تخييلي والسيرة فعل واقعي.
وإذا كان أدونيس قد كتب قصيدة( هذا هو اسمي) وعدّها سيرة شعرية، وكتب السياب مقدمات لقصائده أو قصائد غيره، فليس للنقد الحق في عدها وثائق اتوبوغرافية يعول عليها في معرفة تجربة الشاعر الشخصية كما فعل حسين عبد اللطيف في كتيبه( مقدمات السياب) 2014. إذ لا وجود لقصيدة أو مقدمة قصيدة توصف بأنها سيرية كما لا سيرة توصف بأنها شعرية إلا من باب التجوز أو المجاز لأنها نقديا تظل مجرد توصيفات ليست لها حدود أجناسية، ولهذا يعد هذا النمط من كتابة السيرة نوعا يندرج في جنس القصيدة أيا كانت عمودية أم تفعيلية أم قصيدة نثر.
ومن الطبيعي أن يقود هذا الفهم المغلوط في عد الشعر سيرة إلى خطل الناقد في تحليل القصائد والتأشير على مكامن القوة في تجارب الشعراء، فيتساوى عنده الشاعر والشويعر حتى لا فرق بين كتاب يضع عليه اسم هذا، وآخر يضع عليه اسم ذاك.
ولأن النقد الأدبي ـ المعاصر وليس الراهن ـ كان قد قام بدوره إزاء شعراء كبار، لذا راح بعض هؤلاء الكبار يدونون سيرهم مدركين أن لتجاربهم غنى وعمقا، فكتب نزار قباني ( قصتي مع الشعر) 1970 و( من أوراقي المجهولة سيرة ذاتية ثانية) 2000 وكتب صلاح عبد الصبور( حكايتي مع الشعر) 1969 وكتب عبد الوهاب البياتي( ينابيع الشمس) 1999 وغيرهم كثير.
ولو وقفنا عند سيرة البياتي الذاتية لعرفنا كيف وظف أناه السردية مستبعدا أناه الشعرية ليكون هو السارد يحكي قصة حياته بكل ما فيها من تجارب شخصية، قائلا:( ما كان لي أن أعود إلى كتابة تجربتي الحياتية ـ حيث سيكون الشعر قسيما مع سيرة الذات ـ لولا هاجس كان يراودني كلما أخذ ذهني في الاستغراق وكلما استرجعت الماضي باحثا عن نفسي) (ينابيع الشمس، ص)5.
ووعيه الشعري جعله يختار كلمة السيرة وليس المذكرات، فما أراد كشفه هو كالنهر له منبع، منه تعرَّف إلى القصيدة واهتدى إلى أبطال الأساطير والتاريخ، وله مصب منه نظر إلى الشاعر من خارج الشعر محددا وموضحا وشارحا فحوى الشعر ودلالة الشاعر وماهية التجربة الشعرية.
ومن الخبرات التي جادت بها سيرة البياتي على قارئها توكيده أهمية الغربة للشاعر كونها تشعره بالظمأ الروحي ولا تجعله يفكر في ربح أوخسارة وتبعده عن العالم الذي تعد الكتابة عنه عذابا. أما ما عرضه من مشاهدات وصور وما قدمه من مكاشفات ورؤى فإن فيها كثيرا مما يمكن معرفته عنه من قبيل كيف نمت بذرة ا لتمرد في نفسه وكيف كان للتراث دور مهم في كتابته الشعر.
وكثيرة هي اعترافات البياتي منها أن لمجلة الرسالة المصرية دورا في الأخذ بيده، وأن علاقته بالسياب كانت طيبة وأن له موقفا من نازك الملائكة التي وصفها بأنها (كانت مغرقة في ذاتيتها ( أي الأنا) التي ليس لها علاقة بالآخر أو بالذات العليا. وقد كان السياب أقرب إلى نفسي بالرغم من أنني أكن إعجابا شديدا بمحاولات نازك الملائكة في كل دواوينها التي نشرتها في الخمسينيات فهي شاعرة كبيرة أتمنى أن توضع في مكانها اللائق في سياق تطور الشعر العربي) ص47.
وما وصفه لدور الملائكة في التحديث بأنه (محاولة) وأن عطاءها الشعري مقصور على ما نشرته في الخمسينيات وتمنيه الذي جاء من باب كلمة حق مرادها باطل، سوى دليل على ما يترتب على الانثيال الذاكراتي من كشف وإعلان، على كاتب السيرة أن يكون شجاعا في تحمل تبعاتهما.
والى جانب الاعتراف والمكاشفة هناك مواقف وتقديرات تحفل بها سيرة عبد الوهاب البياتي وبعضها ناقدة للشعر والشعراء منها اعتباره تجربة الشاعر كونية حيث(المكان بالنسبة للشاعر يشبه العش بالنسبة للطائر) ص56 ناظرا إلى بغداد مدينته التي ولد فيها هي عش الطائر الذي فيه كان ينمو ريشه استعدادا للطيران والرحيل وديوانه أباريق مهشمة هو صيحة الطائر العميقة وهو يغادر عشه) ص52 ومنها أيضا عده الإبداع الحقيقي أهم من البيانات الشعرية، وأن لا فرق بين العمود والتفعيلة وقصيدة النثر بل إن الإبداع في النثر أصعب جدا من الإبداع في الشعر. واعتبر محنة الشاعر هي محنة الواقع الذي فيه تسود سياسة احتواء المثقفين ووضعهم في حظائر.. واصفا الشاعر الحق بأنه الذي غايته ليست الشعر بل البحث في الشعر عن وسائل الخلاص للإنسان العربي المستلب المحاصر الذي يقف على أرض محروقة.
وبتلك الانثيالات الذاكراتية وهذه المواقف النقدية، تختفي في كتابة السيرة الذاتية الأنا الشعرية وتبزغ الأنا الساردة ومن ثم لا (سيرة شعرية) بل هي (سيرة ذاتية) فيها الشاعر إنسان يتحدث عن شخصه بنفسه هذا أولا وثانيا أن السيرة تسمح للنقد أن يفيد منها في استجلاء مظاهر تتعلق بالشعر والشاعرية كما أنها فرصة منها يأخذ الشعراء الدروس في كيفية بلوغ قمة الشعر أو الموجهات التي بإمكانها أن تقودهم إلى تلك القمة.
وهو أمر ينطبق على مختلف الشعراء، ومن يقرأ سيرة الشاعر الروسي يفجيني يفتوشنكو مثلا فسيجد الأمر نفسه من الانثيال الذاكراتي للانا والمواقف الناقدة للشعر. والقصيدة عنده ليست سيرة ذاتية لأنها ستكون ( مجردة من اللحم وكثير من النتاجات الشعرية تبدو في الظاهر سيرا ذاتية لكن ما فيها من أفكار ومشاعر هي ليست لإنسان حقيقي حي) (كتابه سيرة ذاتية مبكرة، ص132).
وهذه هي جمالية السيرة الذاتية وفيها تتجلى أهميتها كفن إبداعي ينطوي على غايات واقعية فيها كثير من الدروس المستقاة من تجارب هؤلاء الكبار ولا فرق بين أن يكونوا شعراء أو غير شعراء.
** **
- العراق