أحمد بن عبدالرحمن السبيهين
وُلد الكاتب الكبير «جون شتاينبك» John Steinbeck في بلدة «ساليناس» بولاية «كاليفورنيا» في عام 1902، من أبوين هُما مزيج من الدم الألماني والإيرلندي، بيد أن كلّ شيء فيه يُثبت أنه لم يتأثّر بأجداده مُطلقاً، فهو أمريكي خالص، يُحبّ مسقط رأسه حُبّاً عظيماً يتراءى في مختلف مؤلّفاته، التي تدور أحداثها جميعاً في «كاليفورنيا» بصورة عامّة، وفي وادي «ساليناس» بصورة خاصّة.
تذكر أُمّه أنها قالت عنه ذات مرّة وهو صبيّ: «إن «جون» إمّا أن يصبح عبقريّاً، وإمّا لا يكون شيئاً بالمرّة»! ومع أنه التحق بجامعة «ستانفورد» وأمضى فيها ستّ سنوات، إلا أنه لم يتخرّج فيها، بل ركّز اهتمامه على دراسة المواد التي تُعينه على أن يصبح كاتباً روائيّاً.
شرع بالكتابة في سنٍّ مبكّرة، فألّف الروايات وهو مُراهقٌ بعدُ، لكنه وجد في نفسه الجُرأة فأحرق «أخطاء شبابه» هذه، ولم يكتب شيئاً بعدئذٍ حتى بلغ السابعة والعشرين.
لم تحظَ رواياته الأولى بنجاح كبير، إلى أن التفت إلى موطنه «كاليفورنيا» بكلّ اتّساعها وتنوّعها، واهتمّ بحياة العُمّال وأمانيهم، وصراعهم من أجل البقاء، وبعد ذلك نشر عدداً من الروايات بتلك الخلفيّة؛ أولاها «شقّة تورتيلّا» Tortilla Flat، والتي عُرف اسم «شتاينبك» بعد صدورها في عام 1935.
تجري سلسلة مغامرات هذه الرواية قرب «مونتري»، وأبطالها بعض الفلّاحين الذين تجري في عروقهم الدماء الأسبانية والهندية. وكان أن تعاقدت معه الصُحف لكتابة مقالات عن الموضوعات التي تهمّ الناس في تلك المنطقة.
وحين نشر روايته «الفئران والناس» Mice and Men في عام 1937 اقتنعت النُخبة في أمريكا أنّ كاتباً عظيماً قد وُلد.
ثم اكتملت «الثُلاثية» بصدور روايته الشهيرة «عناقيد الغضب» The Grapes of Wrath، وهي تروي قصّة العائلة «جود»، التي طُردت من أرضها بعدما أفقرتها زراعة القطن، فقصدت «كاليفورنيا» تُفتّش عن الثروة، مُتأثّرة بدعاية مجلّةٍ كانت تستهدف إكثار الأيدي العاملة في الولاية واستغلالها بهذه الطريقة، حتى يصير في الإمكان استثمارها بصورة أرخص.
ولا تكاد تصل عائلة «جود» إلى غايتها حتى تجد، بدلاً من الورود التي كانت تتوقّعها، نُفور الأهالي ونقمتهم، والسكن في مُخيّمات اللّاجئين القذرة، وصعوبة الحصول على العمل.
فيشتغلون في جمع الثمار ثم القطن، ويعيشون على أُجورٍ لا تكاد تكفي لسدّ جوعهم.. ثم تحتدم الاضطرابات الاجتماعية، وتُجرّ إليها العائلة جرّاً، فتُقرّر أن تعود القهقرى من حيث جاءت.
أثار مُحتوى رواية «عناقيد الغضب» عاصفة من الغضب والاحتجاج على كاتبها، إلى الحدّ الذي جرى معه إحراق نُسخٍ من الرواية، جنباً إلى جنب مع روايتين أُخريين، تعبيراً عن السُخط على المؤلّف.
وقد تمّ هذا العمل التخريبي في عقر دار الكاتب، وهي بلدة «ساليناس»، ولم يقتصر الأمر على هذه الهمجيّة؛ بل إن أصدقاءه نصحوه بالحذر من أن يعمد شانئوه إلى محاولة تلفيق اتّهامات باطلة له، فضلاً عن محاولة اغتياله!
وقد اتّهمه كبار مُلّاك الأراضي بأنه تعمّد فضحهم، بالمبالغة في وصف سوء أحوال العُمّال الزراعيين، الذين كانوا يئنّون تحت وطأة الكساد الاقتصادي الذي اجتاح أمريكا في الثلاثينيات، عقب كارثة 1929 المالية.
وقد أثارت رواية «عناقيد الغضب»، والفيلم الذي أُعدّ عنها، تحقيقات في «الكونجرس» الأمريكي، أيّدت صحّة ما رواه الكاتب عن أحوال العُمّال، وأدّت إلى سَنّ تشريعات جديدة، لتحسين أوضاعهم، والحفاظ على حقوقهم.
وقد تأكّدت قيمة الرواية بحصولها على جائزة «بوليتزر» Pulitzer، أرفع الجوائز الأدبية الأمريكية، لعام 1940، ولوصولها لعامّة الناس عن طريق تحويلها إلى فيلم سينمائي.
وقد شارك «شتاينبك» في الحرب العالمية الثانية، بالعمل مراسلاً صحفياً لصحيفة «الهيرالد تريبيون»، مما أتاح له أن يشهد العمليات العسكرية عن كثب، وألهمته تلك الفترة بأحداثها الجسام مسرحيّته الشهيرة «أُفول القمر» The Moon is Down، وهي مسرحية تبدو وكأنّ كاتبها قد وضعها ليومنا وحاضرنا هذا، فهي تُصوّر حال بلد مُسالم احتلّه الغُزاة، ولكن الشعب الأعزل بعد زوال هول المفاجأة، يستحيل تحت الضغط إلى نارٍ تُحرق المُحتلّين، ويُصبح الشعب المُترف الخانع بُركاناً مُتفجّراً مُدمّراً.
ثم إن الكاتب انتهى في عام 1952 من كتابة روايته «شرقيّ عدن» East of Eden، لتكون آخر رواياته الكبرى، وتُسهم في نيله جائزة «نوبل» للآداب في عام 1962.
تعتبر هذه الرواية واحدة من أشهر الروايات الأمريكية، وكذلك أطول روايات الكاتب، بصفحاتها التي تُقارب الثمانمئة صفحة.
وموضوعها يمتّ بصِلة أساسية إلى تاريخ أُسرة الكاتب، حيث أن مُعظم الأحداث إن لم يكُن عاشها فقد رويتْ له بشكل أو بآخر، وتتلخّص القصّة في سرد أحداث حياة عائلتين، يعجّ تاريخهما بالخير والشرّ، والموت والحياة.
ومن الجدير بالذكر أن رواية «شرقي عدن» لا علاقة لها بمدينة «عدن» في جنوبي الجزيرة العربية، فالعنوان مقتبس من «سفر التكوين»، يُشار فيه إلى الجهة التي انسحب إليها «قابيل»، في بلاد «نود» شرقيّ «عدن»، بعد أن قتل أخاه «هابيل».. وهو ما يجعل العنوان نوعاً من رمزٍ يشير إلى الأحداث المعاصرة التي تقصّها الرواية، والمستوحاة من تلك الحكاية التوراتية.
لقد كان لسطوع نجم «شتاينبك» على الساحة العالمية بعد «نوبل»، أن أُفسح له المجال إلى البيت الأبيض، حيث أصبح صديقاً للرئيس «جون كينيدي»، ثم الرئيس «ليندون جونسون» من بعده؛ حيث كان يُعدّ له خُطبه الهامّة.
ولكن صداقته للرئيس «جونسون» كلّفته الكثير، فقد طلب منه الرئيس أن يُساعده في إقناع الشعب الأمريكي بسلامة السياسة الأمريكية في حرب «فيتنام».
فكتب «شتاينبك»، بعد مُرافقته لأحد الطيّارين الحربيين الأمريكيين في غارة فوق «فيتنام»، مقالاً طويلاً وصف فيه قصف المدنيين الآمنين بموسيقى عصرية! وشبّه أصابع الطيّار بأنامل الموسيقيّ! فقال: «كانت أصابع المُقاتل الجويّ تضغط على مفاتيح إسقاط القنابل، مثل أصابع عازف البيانو الماهر، الذي يعزف أعظم لحن يُعزف بمصاحبة الأوركسترا Concerto في العصر الحديث»!!
فبعد ذلك الحماس غير المفهوم للعُدوان، بدأ الناس يتّهمونه بالتناقض والعنصرية، وعدم التعاطف مع الفلّاحين الفيتناميين، كتعاطفه مع فلّاحيّ «كاليفورنيا»!
ولاحظ الناشرون فجأة، بعد ذلك التحليق الذي لا يُبارى في سماء الأدب الراقي، أن مبيعات كُتب «شتاينبك» تتراجع، وأن الاهتمام به يتقلّص، وأن الجامعات لم تعُد تدعوه لإلقاء المحاضرات على طُلّابه.
ولكن من جانب آخر، فإن كلّ المعارك الفكرية التي خاضها، لم تؤثّر في قيمته ككاتب عظيم، فعند وفاته في «نيويورك» عام 1968، كانت كُتبه هي الأكثر انتشاراً ومبيعاً، كما أنها أصبحت من عيون الأدب الكلاسيكي الأمريكي، المُقرّرة على طلبة المدارس والكليّات.
وقد أقامت بلدته «ساليناس»، التي سبق أن هاجمته وأحرقت كُتبه، مركزاً ومكتبة باسمه؛ أصبحا اليوم مجمعاٌ يقوم على تعزيز دراسة أعمال الكاتب وإحياء تُراثه، إضافة إلى متحف ضخم يضمّ كلّ ما يتعلّق به.
ختاماً، فإن «شتاينبك» ينتمي إلى صنف الروائيين المؤمنين بأن الكتابة ليست لهواً ولا ترَفاً، بقدر ما هي وقود الحياة وحطب نارها..
يقول الكاتب في يومياته: «إن كانت الكلمات المكتوبة قد أسهمت بشيء نحو تطوير حياتنا أو حضارتنا بوجه عام، فأظنّ أن أعظم إسهام يكمن في النتيجة التالي: الكتابة العظيمة.. وهي مادّة نتّكيء عليها لنواصل حياتنا، هي أُمّ نستشيرها قي أمورنا كما كنّا نفعل صغاراَ، هي حكمة نستخلصها من الحياة إذا تعثّرنا، هي قوّة نستعين بها على الضعف، هي شجاعة مُجسّدة تشدّ من أزرنا في حربنا ضد الجبن والخوف..».