عبدالله العولقي
في طفولته،كان يهرب من والده ذي الأخلاق الرديئة تجاه حضن أمه الدافئ، حيث تحكي له حكاياتها المسائية من أجل أن ينام، وعندما بلغ سن التعليم، التحق بالمدرسة اليونانية التي رسب في إحدى موادها التعليمية خمس عشرة مرة!!، فعاقبته الإدارة بالحبس في قبو المدرسة، وهناك بدأت بواكير موهبته الأدبية تتفتق عندما شرع يطلق النكات المضحكة على مدير المدرسة والتعليقات الساخرة على معلميه وزملائه وحتى على نفسه ، لكنه بعد ذلك تمكن من إكمال دراسته حتى المرحلة الثانوية.
لم يعِش أنطون تشيخوف طفولة سعيدة، ولذا ليس من فراغ أن يقول في سيرته الذاتية ومذكراته: في طفولتي لم تكُن لدي طفولة!!، فقد أجبره أبوه على العمل في الحانوت مع بقية إخوته، فكان تشيخوف يقف في المتجر البارد لساعاتٍ طوال على قدميه، مُحاولاً التغلب على الرغبة في النوم واللهو، كما أن أباه كان يجبره أحياناً على الغناء في كورال الكنيسة من أجل المال، وقد انتهت طفولته البائسة إلى حد ما في عام 1876م عندما أعلن والده عن إفلاسه بسبب عجزه عن سداد ديونه، فهرب من بلدته تاغازوغ إلى موسكو لكي يتجنب حبسه في السجن، وهناك لحقت به أسرته ما عدا تشيخوف الذي قرر أن يدخل كلية الطب، وبسبب مصاريف الدراسة المرتفعة قرر أن يعمل بمهنة تدريس أبناء الذوات والأسر الثرية، وما إن تصل الرسائل من والدته وأشقائه يشتكون من ضيق الحال في موسكو حتى يبكي ويؤثرهم على نفسه، فيرسل لهم ما يتقاضاه من أجر الدروس الخاصة، وبعد قصة كفاح تمكن تشيخوف من إكمال دراسته ليتخرج طبيباً يتكسب من مهنته عام 1884م، وقد اعتقد حينها ولفترة يسيرة أنه سيتخلص من عناء الشقاء المادي، لكن نفسه المرهفة وإحساسه الحاد تجاه الفقراء والمعدمين جعله يقدم خدمات الكشف والعلاج مجاناً لهم!!.
بطل قصتنا اليوم هو هذا الطبيب الذي اخترع فن القصة القصيرة وأهداه للأدب الإنساني، كان يجد في نفسه ميلاً عجيباً تجاه الحرف والكلمة أكثر من ميله نحو سماعة الطبيب، وبعد صراع يسير مع النفس، قرر أخيراً أن يعتزل مهنة الطب ويتفرغ لآفاق الأدب والقصة، وبعد سلسلة من القصص والكتابات التي كان يرسلها إلى المجلات والصحف الروسية، بدأ اسمه يسطع في سماء الأدب الروسي، وبدأ يحجز لنفسه موقعاً بين أدباء روسيا العظام في ذلك الوقت كتولستوي وفيودور ديستويفسكي وغوغول ومكسيم غوركي وبوشكين وغيرهم.
يقول مؤسس النقد الأدبي الحديث الفرنسي سانت بوف: حتى تدرس أديباً أو شاعراً فعليك أن تدرس العصر الذي عاش فيه، والمكان الذي قضى عمره فيه، وتتعرف على كافة العوامل التي أثرت في أدبه ومزاجه، حتى تكتمل الصورة النقدية حوله – وبالمناسبة فسانت بوف طبيب أيضاً – وحتى نطبق نظرية بوف على حياة تشيخوف، نجد أنه عاش في عصر ازدهار الأدب الروسي، كما بلغت الموسيقا الروسية أوجهها الإبداعي وذروتها الفنية عند تشايكوفسكي ورحمانينوف، كما بلغ المسرح الروسي قمة عطائه الفني عند قسطنطين ستانسلافسكي وزميله دانتشنكو، فيمثل هذا العصر زمن الذروة الروسية على كافة الأصعدة الروائية والموسيقية والمسرحية.
شرع تشيخوف يكتب قصصه وينشرها حول انتقاد الأوضاع العامة في روسيا، ولم يسلم أحد من سخريته، لا الأثرياء الأغنياء ولا حتى الفقراء المعدمين، كانت لديه نظرة فاحصة تجاه تناقضات المجتمع الروسي في ذلك الوقت، فقد جذب القراء برائعته الأولى قصة (السهب) والتي كانت تدشيناً لفن القصة القصيرة في الأدب العالمي ونال عنها جائزة بوشكين، والتي تبعتها قصة (النوفيلا) التي ظهرت عام 1888م ، فقد كانت موهبة تشيخوف الفنية تؤذن بشق أسلوب جديد في الأدب الروسي، حيث لا تلعب الأحداث أو الحبكة الروائية الدور الرئيسي في أحداث الرواية، وإنما يلعبه المزاج العام للقصة ولوحات السهوب الشائعة في آفاقها اللا محدودة.
يقول الكاتب محمد هشام في إحدى مقالاته: كان الدكتور تشيخوف يسخر ممن يكتبون القصص الخيالية وممن يقبلون على تأليف القصص دون أن تكون لها مثيلاتها في الواقع، فكان يرى أن المجتمع والشارع والقرية والمحلات مليئة بالنماذج التي من الممكن أن يكتب عنها الأديب عامةً والقاص خاصةً، ومن هنا ليس من قبيل الصدفة أن تجد في قصص تشيخوف: التاجر وضابط الشرطة والموظف والصعلوك والطبيب والحانوتي والرسام والنحات… إلخ ، فأبطال تشيخوف ليسوا نتاجاً لأديب يقبع بفرشه الوثيرة في برجه العاجي، وإنما كانت تخلق على يدي أديب كان يحب أن يُصادِق، ويلتقي كل الناس على اختلاف انتماءاتهم وطبقاتهم ومستوى ثقافاتهم ليملك في النهاية الكتالوج الذي ينظر إليه بين الفينة والأخرى ليشرح المجتمع الإنساني على عمومه، والروسي على خصوصيته،ومن هنا كان تشيخوف ينصح الكتاب المقبلين على دخول عالم الأدب ركوب قطارات الدرجة الثالثة ليلتقطوا النماذج المثلى التي يجب تجسيدها في أعمالهم الأدبية، هكذا كانت خلطة تشيخوف الأدبية في التعرف على مكامن النفس الإنسانية ، وسنرى في الفقرة التالية كيف قرر أن يتخذ خطوة تطبيقية جريئة من أجل ذلك الشيء!
عاش تشيخوف أربعة وأربعين سنة فقط بعد أن فتك به مرض السل الرئوي، وهو بذلك يدخل قائمة المبدعين الذين غادروا الحياة وهم في سن الشباب وتوفوا مبكرين، وتعود قصة وفاته إلى حكاية غريبة إلى حد ما، فعلى الرغم من كونه طبيباً، ويدرك جيداً خطورة الانتقال نحو المناطق الثلجية الصاقعة دون التهيؤ الكامل لهذه الرحلة، فقد قرر أن يخوض تلك المغامرة الجريئة والشاقة والمحفوفة بالمخاطر، كانت خطة الرحلة أن يقطع بعربته المتهالكة مساحات شاسعة من الأراضي الروسية تمتد ما بين موسكو إلى جزيرة سخالين في أقصى الشرق الروسي، متجاوزاً بذلك صحراء سيبيريا الثلجية كاملة، وقد اعتبر بعض المؤرخين الذين تناولوا سيرة تشيخوف أن هذه الرحلة الشاقة كانت بمثابة الانتحار، لقد دفعه ذلك الشغف العارم الذي يهيم داخل روحه الإنسانية أن يستقصي أحوال الناس في تلك الجغرافيا النائية، ليقوم بدراسة سوسيولوجية فريدة، لكن صدره الضعيف لم يتمكن من مقاومة موجات الصقيع الباردة، فأصيب بمرض السل الرئوي الذي كان السبب الرئيسي في رحيله المبكر عن الدنيا، وعندما أصبح طريح الفراش وساءت حالته الصحية، كانت والدته تقف على رأسه وتشجعه للوقوف ثانية، وتقول له: هيا انهض، أيها القوي.. لا تستسلم للموت أبداً، وقد ظل يحاول الصمود من أجل أمه لكن الموت كان أسرع إلى اختطاف روحه إلى السماء، تقول بعض الروايات أنه أصيب بمرض السل في ألمانيا، ففي صيف عام 1904م، استيقظ في جنح الليل وللمرة الأولى في حياته طلب استدعاء الطبيب، وعندما جاءه الطبيب لم يستطع أن يعمل له شيئاً أمام حالته المتدهورة، فجلس تشيخوف على سريره وبابتسامةٍ شديدة نظر إلى الطبيب، وقال له بالألمانية – على الرغم من أنه لم يتكلم بها من قبل مطلقاً - : إيش شتيربي.. وترجمتها: إنني أحتضر، ثم رقد في هدوء على جانبه الأيسر، وحينها غادر الحياة طبيب الأدب وقصاص الإنسانية، وكاتب العالم، وأفضل ناثري التاريخ على مر الدهور والأزمان كما يرى بعض النقاد.
لقد جاء تشيخوف الفنان إلى الدنيا حاملاً رؤية جديدة في عالم الأدب، ترتكز رؤيته على فن الفكاهة المكثفة في الكلمات اليسيرة، والسخرية الكوميدية اللاذعة تجاه تناقضات المجتمع، ويرى بعض النقاد أن تشيخوف قد رسم بأدبه الفكاهي علامة فارقة ليس في الأدب الروسي وحده ، وإنما في الأدب العالمي بشكل عام ، ولو أردنا أن نختار عنواناً ملائماً يميز فن تشيخوف القصصي فهي إنسانيته الصادقة ، وتعاطفه مع الناس على كافة طبقاتهم الاجتماعية، ويكفي دلالة على هذه الصورة تعاطفه حتى مع الشخصيات التي كان يهاجمها، فتلمح من بين ثنايا كلماته وعباراته صورة تناقضية تجمع بين الهجوم الناقد والتعاطف الإنساني في نفس الوقت، هذه العبقرية النادرة في الكتابة الأدبية لا تجدها إلا في قامة متميزة استثنائية اسمها أنطوان تشيخوف، وللقارئ الكريم أن يتخيل أنه قد ترك هذا الإرث الأدبي الكبير وقد توفي في سن الأربعين، فكيف لو قدر لهذا الأديب أن يعيش حياة طويلة!!.
يقول الكاتب والقاص الكبير أحمد الخميسي: لقد كان الروائي الفرنسي جورج ديهاميل يعتبر أن (الأسلوب هو الكاتب)، أي أن الأسلوب يعكس مجمل وسائل الأديب وطرقه ورؤاه بل وروحه أيضاً، بهذا المعنى العام أثر أنطوان تشيخوف في أسلوبي، أي في إجمالي ما كتبته من قصص بل ومن مقالات،، الآن عندما تقرأ تشيخوف وتتمعن في وسائله الأدبية، في طريقة كتابته للقصة، ستجد أن كل تلك الطرق أصبحت مفهومة ومعروفة واستفاد ويستفيد منها الكثيرون حول العالم، لكن الشيء الذي لا يتكرر داخل كل إنجازات تشيخوف هو روح ذلك الكاتب، يمكن لأي أديب أن يتمكن من الأدوات التقنية لدى تشيخوف لكنه لن يستطيع مهما فعل أن يستعير روحه التي لا تتكرر، يمكنك أن تتعلم منه كيف تكتب القصة، لكنك لن تتعلم أبداً كيف تشعر بآلام الآخرين بهذه الرهافة والدقة ما لم تكن هذه الرهافة سمة من سماتك الأصيلة، لقد ترك أنطوان تشيخوف في نفسي وفي أسلوبي أثرا لا يمحى، إنه القائل:( الإيجاز أخو العبقرية)، وهو القائل في مسرحية (الخال فانيا): في الإنسان لا بد أن يكون كل شيء جميلاً : وجهه وملابسه، روحه وأفكاره) ، وهو القائل: ثمة موهبة أكبر من كل المواهب هي حب الناس، لقد أثر فيَ تشيخوف عموماً، بالتزامه الدائم بالعطف على الناس حتى الذين لا تخلو نفوسهم من النقائص،لقد كان متيماً بالطبيعة والبشر، ومهموماً بعمق وأسى بمستقبل البشرية ومصيرها، وعندما كنت في روسيا لم أزر من بين مدافن الأدباء العظام كلهم سوى مدفنه لأقدم له زهرة من القلب، وأشكره في سري على حياته الثرية الق صيرة!!