د. شاهر النهاري
ليل وبرد ورعد وريح، وكان عبقري التلحين محمد عبد الوهاب في زيارة لأصدقائه عائلة الرحباني، في ليل بيروتي مفعم بالحب والنبض الحيوي والإبداع والفن، وكان عبد الوهاب نادر السفر، وإذا أجبر عليه فضل التشبث برهاب طوق النجاة في السفينة على التعلق غيمة بين السماء والأرض.
عبدالوهاب كان من أكبر المقدرين والمسحورين بصوت سفيرة النجوم فيروز، وكان معجبا بتوليفة تلك المدرسة الفنية الرحبانية، التي تختلف عن مدرسته الطربية الكلاسيكية المصرية كليا، وبكل تواضع الكبار ظل يتغزل في كل جزئية رقة وجنون ورقي فيروزي رحباني تكتب الأسماء على الحور العتيق.
عبدالوهاب الذي كان يحرص في مصر، أو في لبنان على التلاقي مع الرحبانية، ضمن جلسات أسرية فنية حبيبة على نفسه، في معية زوجته اللبنانية نهلة القدسي، والتي زادته حبا وعشقا وتعلقا بالأرض والإنسان والتراث الشامي.
لقاء مجانين فنون وأصالة أشعلت بالأغاني والأشعار الأرواح وألهبت الأجواء الباردة من حولهم والجدران تتسمع، حتى استضافتهم سفرة غنية بالأكلات والمشروبات والحلويات اللبنانية المميزة بطعمها الجبلي، وتكويناتها الصافية بريق زيت الزيتون، وتراثها الأصيل الشامي.
سهرة إبداع واجتماع ود ومرح تقصر مهما طالت، وفندق سكنى عبد الوهاب يظل بعيدا في رحلة الليل والشتاء المرتعشة.
ووسط الضحكات يستأذن عبدالوهاب للمغادرة فيرد عليه عاصي بعفوية كرم شاعر شامي عميق:
-سهار بعد سهار، ت يحرز المشوار.
كلمات تحمل الكثير من معاني الترحاب الشعبية، والمحبة الصادقة، وتاء شامية صرفة تزيد لمعة الجملة ولحنها، وتعبير يحرز تأتي بمعني «ما يستحق العناء»، فما يلبث ذوق عبدالوهاب المتيم أن يلتقط بحسه جمالية تلك الجملة، التي تستحق التوقف عندها، ويترجاه شغفا أن يكملها شعرا.
وبدقائق الحث الشاعري يسمعه عاصي بقية كلمات وردت على خاطر عفوية وعبقرية وحرفية التكامل الفني:
كتار هو وزوار، شوي وبيفلّو.
أي أن الزوار كثير، وأنهم لن يبرحوا أن يرحلوا لبيوتهم، بدواعي النعاس والبرد.
ثم يخص عين الضيف العزيز، ويطريه:
وعنّا الحلا كلّو، وعنّا القمر بالدار، ورد وحكي وأشعار، بس اسهار.
فتأسر عبد الوهاب الكلمات وتصويرها اللحظي لوجوده كالبدر يظل على الأرياف من نافذة الحب، وحلاوة بدع الفنون، فلا يخرج من عندهم، إلا وقد أخذ وعدا بإكمال النص، وبأنه هو من سيلحنه بنفسه، لصوت يصيب أطرافه بالدفء.
ويظل الهائم بالكلمات يدندن بها ولها وهو في طريق عودته، وبين أضلعه رفرفة طائر فن تسامى في الفضاء، ولديه قرار حالم بأن يسمعها ترنيمة على لسان الفيروز، مجاكرة ومجاراة مع مدرسة الرحبانية، وبنفس أدواتهم، وليثبت أنه وعلى قدر ما يحبها، وكثرة ما يعرف من خبايا فنونها قادر على أن يغوص في مشاعرها ويأتي بمثل ما لها من در أسفار فنون بين النجوم.
وهذا ما كان، فخرجت لعالم الفن العربي هذه التحفة البديعة، العبقرية، المندمجة المتجانسة، المتكونة من تناسق عدة إبداعات.
سهار، لحن عبقري، وفن شبيه جدا بمدرسة الرحبانية، ولكنه يعتبر بالنسبة للملحن المصري العبقري، مجاراة ومجاملة، وتعبيرا عن الحب والتقدير للبنان وأهلها، وإثبات تمكنه في اللهجة الشامية، لدرجة الإتقان.
كلمات يصعب أن تسمعها في عصرية شوارع مدن الشام الصاخبة الحالية، لكونها تحتوي براءة وحب وخصوصية الضيعة الأصيلة، وعفوية الإنسان الريفي البسيط الطيب، الذي يدرك قدر ما يمتلكه من جمال الطبيعة، ومن البراءة والصداقة وإشفاق الحب الخالص، ومن كرم اللقياء، وبما يجود به المكان والزمان:
بيتك بعيد، وليل، ما بخلّيك ترجع، أحقّ الناس نحنا فيك.
يا الله ما أجملها من مشاعر ضيافة تجعل الحقوق تظهر حتى في تمضية لحظات الوقت الوجيد مع المحبوب.
ويبادرنا الصوت الخرافي الأحاسيس، يشرح برقته عن نوايا القلب، الذي يمتلك من الفرح ما يكفي لتشريع أبواب القلوب:
«رح فتّح بوابي، وإنده على صحابي، قلّن قمرنا زار، وتتلج الدنيي أخبار، بس اسهار».
فالفرحة بالضيف ليست فقط للمحب، ولكنها تضم الدار والأبواب والأصحاب، وشعاع القمر، الذي ينزوي أمام ضوء وجه الزائر الحبيب، في صور بديعة، وكيف أن ثلوج الشتاء، حين تتراكم في طرقات الضيعة لا تجعل الأعين تنام، ولكنها تنشر الهمس، وتتناقل خبر تلك الزيارة المباركة والسهرة الفريدة البهيجة.
ويتسامى حس الصوت المخملي عطوفا، فلا تعود تميز المسافات بينه، وبين عذوبة التوزيع الموسيقي العجيب، ليزيد دفء القلوب:
«والنوم، مين بينام غير الولاد، بيغفوا وبيروحوا يلملموا أعياد»
وهنا تلميح إلى وقت الزيارة، وأنها في ليلة عيد مثلجة، نامت فيها أعين الأطفال، ليبادروا صباحا بلملمة هدايا عيدهم القادم، غير أن الضيف، هو هدية الكبار، التي فرحوا بها ليلا، حتى لم يعد لديهم ما يناموا من أجله استعجالا لنشوة الصبح، ففي سهرتهم تحققت كل هدايا الأعياد.
وتبيح ال كلمات الأسرار، وتحكي دون ما حرج: ما دام إنّك هون، يا حلم ملوا الكون، شو همّ ليل وطار! وينقص العمر نهار، بس اسهار.
لهجة من تناغم الرقي رشيقة عجيبة مخملية، وحروف أسطورة يتيمة تعطي من المعاني ما تعجز عنه كثير من المعلقات، بملامسة الشغاف، فكان حرف التاء، يعوض برقة وجوده كلمة: (من أجل)، ويختصرها بشامية عفوية، وبحلاوة الرمان والتين والكرم، وحرقة الدقة والحمص والزيتون.
رزق الله على أيام لبنان العتيقة التي كانت منارة فن ومحبة، قبل أن تنقلب ذكرياتها خرابا وحيرة وخوفا على ألسن محبيها، وبعد ما كانت كما نزف قلب أحمد شوقي: صدى السنين الحاكي.