د. حصة المفرج
أشير بداية إلى اهتمام وزارة الثقافة السعودية بأهمية (الجزيرة العربية) المكان، وما يضمه من عناصر أخرى تمثل: الإنسان والتاريخ، والحضارة، والهوية؛ ودورها في دعم الشعر العربي من حيث النشأة والنهضة، وفي تراتبية زمنية تستدعي الماضي، وتتجانس مع الحاضر، وتبني المستقبل. أليست الجزيرة العربية مهدًا للشعراء العرب منذ القدم؟ وقد سطروا أمجادها في أجيال متعاقبة ومازالوا يفعلون.
ولأني مهتمة بالعنونة، وأجدها محرضة دائمًا على الكتابة في أفقها، ثم لأهمية استجلاء مكوناتها قبل البدء بالمتون؛ فقد وجهني هذا العنوان إلى محاور كثيرة ذات ارتباط بالمكان؛ إذ يتخذ المكان أبعادًا متنوعة في الشعر العربي، ويمكن دراسته في أكثر من بعد: جغرافية المكان، معمارية المكان، رائحة المكان، مجازات المكان وغيرها. وقد آثرت أن أقف على أحدها (رائحة المكان).
فعبق؛ بالنظر إلى هذا اللفظ يأتي في المعاجم اللغوية: عبقَ به الشيء عبقًا أي لزِق، ويقال: عبق به الطيبُ: أي لزق وظهرت فيه رائحته، وعبق المكان بالطيب: أي انتشرت رائحة الطيب فيه؛ فاللفظ في أصله اللغوي يحيلنا مباشرة إلى الرائحة، واستدعاء العبق يستدعي الرائحة معه. يقول أبو نواس وهو يصف رائحة الكف بالقرنفل:
عبِقَت أكفهمُ فكأنما
يتنازعون بها سِخابَ قرنفلِ
ويقول النابغة الشيباني مستدعيًا روائح أخرى:
وقد عِبقَ العبيرُ بها ومسكٌ
يُخالطهُ من الهنديّ عودُ
وإن كنا نتعامل مع هذا اللفظ عادة من منظور مجازي إلا أنني آثرت أن أقف على معناه المباشر وأستحضر هذا المعنى؛ فللأماكن عبقها الذي لا يمكن أن تخطئه الحواس، وليست حاسة الشم فحسب، وللرائحة أهميتها في استكشاف المكان واستجلاء هويته ومكوناته الثقافية، وتتميز بعض الأماكن بروائحها الخاصة والمميزة واقعيًا ومجازيًا.
اللفظ الثاني المهم في العنوان هو (المكان) إذ يشكل النظام السيميائي له بُعدًا مُهمًّا من أبعاده؛ ذلك أنه لا يعنى به بوصفه موقعًا جغرافيًّا بحتًا، وإنما يهتم بأبعاده الدلالية الناتجة عن وصفه ومتعلقاته، حيث أبعاد المكان النصية والاجتماعية والنفسية والثقافية؛ لا سيما أن الشعر العربي شعر مكاني في ارتباطه بالبيئة التي أنتجته، والإنسان الذي أبدعه، وهذه الأبعاد المرتبطة بالمكان مجتمعة هي التي تشكله، وتبرز حضوره الثقافي.
أما البعد الجغرافي فهو أحد هذه الأبعاد، وهناك دراسات كثيرة اهتمت بهذا البعد، ووزارة الثقافة ممثلة في هيئة الأدب والنشر والترجمة ركزت كذلك على استقصاء هذه الأماكن التي وردت في الشعر القديم، ومازالت حاضرة على خارطة الجزيرة العربية والمملكة العربية السعودية. وقد توزعت هذه الأماكن في مختلف مناطق وأقاليم الجزيرة العربية داخل المملكة وخارجها كما في الحجاز ونجد واليمن: ثهمد، مُثقّب، تثليث ونجران، الفردين، جرثم، ملْهم، الأفلاج، بنبان، الجواء، السليل، نمار، أجا وسلمى، تبراك، ثرمداء، الخرج، عنيزة، الوشم وغيرها.
ولا يكاد الشعر القديم يخلو من ذكر المكان وما يرتبط به جغرافيًّا أو معماريًّا أو تاريخيًّا أو بسماته المادية أو غير المادية. والعلاقة بين الشعر والمكان وثيقة، وقد يصنع الشعر من المكان لوحة فنية تحوله من بعده المادي البحت إلى دلالات شعرية تفوق ما تحمله الدلالات الجغرافية.
ومن أهمية المكان وعلاقاته غير المباشرة بالشعر، أن الشعر ومصطلحاته العروضية مستمدة في أغلبها من متعلقات مكانية، فقد نقل المرزباني عن الخليل بن أحمد الفراهيدي قوله: رتبت البيت من الشعر ترتيب البيت من بيوت الشَّعر- يريد الخباء. وأثرت هذه الطريقة في نقاد آخرين عقدوا الصلة بين الشعر والمكان في جوانب أخرى. والخباء جزء من معمارية المكان، والعمارة التقليدية تختلف عن الحديثة، وظروف الحياة العربية فرضت تنوعًا في المعمار من المتحرك إلى الثابت ومن الخيمة إلى البيوت المستقرة وهكذا. وهذا موضوع يستحق الدراسة كذلك أعني (معمارية المكان في الشعر العربي القديم وكذلك الحديث).
ويتجاوز المكان الحدود الجغرافية والوظيفية المباشرة إلى ما يسميه (باشلار) (سمات المأوى التي تجعلها تستعاد بمجرد ذكرها أكثر مما تستعاد من خلال الوصف الدقيق لها) بناءً على ذلك لم يعد المكان مساحة وفراغًا ونسبًا وحدودًا تحده من هنا وهناك ومعالم مادية، وإنما صار نسقًا ثقافيًّا متكاملًا. ويذهب (بارت) إلى أن الفضاء المكاني يرتبط بالظواهر الاجتماعية والممارسات اليومية إذ يحتضن مجموعة من الدوال المبثوثة في العادات والتقاليد ومعالمه ورموزه؛ مما يعطيه أبعادًا تأويلية ونفسية ورمزية وثقافية.
عودة إلى الرائحة وعلاقتها بالمكان، عندما وضع أرسطو التسلسل الهرمي للحواس، جعل البصر في الأعلى ثم السمع وفي أسفل الهرم التذوق واللمس، ووقعت حاسة الشم في مكان ما في الوسط؛ إذ يراها عابرة وغير مستقرة، وربما ترتبط بأشياء كثيرة مثل: الجسد والغرائز والاحتياجات الفسيولوجية، ومع اختلاف أبعاد ما طرح بعد أرسطو إلا أنه ظل يحتفظ بهذه التراتبية المعروفة للحواس، ويربط إدراك المكان بحاسة البصر. وفي منتصف القرن العشرين، بدأ الباحثون بالإشارة إلى أن إدراك المكان لا يقوم على البصر فقط، بل على تعدد الحواس كما في حاسة الشم التي ترتبط بالرائحة.
ومع الاهتمام بدراسات الجسد وما يتصل بها لاسيما في الدراسات السيميائية التي تنظر إلى الجسد بوصفه علامة، جاء الاهتمام بالحواس بوصفها خارطة إشارية مهمة كاشفة للمكنونات الداخلية للإنسان، والمكان وغيرهما. فالإنسان يعيش في مكان وهو الذي يعمره، وأكبر مثال على ذلك تعمير البشر للأرض. ويشير (نيتشه) إلى أن الأنف أداة رائعة خذلناها فلسفيًّا وأهملناها؛ فسيميائية الروائح حقل يتناول الروائح بوصفها نسقًا من العلامات الدالة.
وما يحفز أكثر على الاهتمام بالرائحة، العلاقة الوثيقة بين حاسة الشم والذاكرة المكانية التي يمكن أن تحتفظ ضمن ما تحتفظ به عادة بالرائحة، ولا سيما حين يرتبط الأمر بذكريات الماضي، وهذا البعد ليس بعدًا مجازيًّا بحتًا عندما نقول: إن تذكرنا للمكان يرتبط بتذكر رائحته، أو أن رائحة معينة يمكن أن تعيدنا إلى مكان بعينه؛ لذا تبقى الرائحة ذات تأثير في حضور المكان واستدعائه لاحقًا. وهذا ما تؤكده الدراسات التي أجريت على الدماغ؛ فجزء منه يتعامل مع العواطف والذاكرة، والرائحة ترتبط به ارتباطًا مباشرًا. ومع أن الرائحة تزول عند زوال مصدرها وتتبخر في الهواء كما نعلم، إلا أنه يمكن الكشف عن أثر الروائح وفك رموزها من دراسة الآثار المادية وغير المادية، والشعر جزء منها.
واليوم نحن لا نتحدث عن رائحة واحدة للمكان (الجزيرة) في الشعر العربي، بل نتحدث عن مزيج من الروائح؛ مما يشكل ذاكرة شمية متميزة، قد تتقاطع مع روائح أماكن أخرى، لكن هناك حتمًا ما يميزها، والمهم فيها مدى قدرتها على تعريف المكان ورسم هويته.
سأرصد بعض الجوانب التي يمكن أن نتبين فيها علاقة المكان بالرائحة، سواء أكانت العلاقة مباشرة، أم غير مباشرة وهو الأهم:
قد تكون الرائحة مرتبطة ارتباطًا مباشرًا بالمكان الذي تنتشر فيه، وتتشكل الصورة من هذه العلاقة كما في قول الشاعر:
وثنايا وريقةٍ من مُدامٍ
كعبيرٍ وروضةٍ من أقاحي
ويمكن أن نتمثل العلاقة المباشرة بين المكان والرائحة في بعض النماذج من مثل قول عنترة:
دارٌ يفوحُ المسكُ من عرَصاتِها
والعودُ والندُّ الذكيُّ جناها
ويقول:
بَردُ نسيمِ الحجازِ في السحرِ
إذا أتاني بريحةِ العطرِ
ألذُّ عندي مما حوتهُ يدي
من اللآلي والمالِ والبدرِ
أما الأبعاد غير المباشرة لعلاقة المكان بالرائحة يمكن أن نتبينها في أكثر من توظيف شعري للرائحة:
عندما يذكر المكان ينصرف الذهن مباشرة إلى الموضع، موضع الإقامة والمعيش والسفر وغيره، لكن المكان من منظور آخر يعبر عن الوجود، وهذا الوجود يقتضي النظر في الأشياء والعلاقات والبشر التي تكون داخله، فالمكان في الأدب لا يتعين من الوصف المادي له؛ لذا تختلف نظرة الجغرافي له عن الفيزيائي عن الجيولوجي عن المؤرخ، وفي الأدب يتخذ وجهة مختلفة يتجاوز ماديات المكان إلى علاماته، فالأطلال علامة مكانية، والشاعر لا يصف ما يراه حقيقة دائما وإنما يصف ما يتمثل؛ لذا استمر الشعراء على المقدمات الطللية رغم الاستقرار وذهاب سبب الوقوف عليها، فالمكان في القصيدة قد لا يكون هو المكان في الواقع، والرائحة المرتبطة به قد تكون كذلك في مثل هذه السياقات المجازية.
وكانت علاقة الرائحة بالقصيدة تتمثل أكثر في ربطها بالديار/ الأماكن وآثارها وما تخلفه من روائح طيبة أو غير طيبة. وشعراء المعلقات يذكرون الرحيل وخراب الديار، ومن أجل المكان نشأت مرثيات البكاء على الأطلال في أصلها، فالمكان عادة هو منطلق الشاعر في نصه، وقد يتعامل معه تعاملًا مباشرًا أو يتعامل مع أحد مكوناته.
وقد ترتبط الرائحة بما يعارض ذهابها مع الانتقال من مكان لآخر، وتغدو علامة على المكان المستقر، ومعارضة المقدمة الطللية، كما يقول أبو نواس:
لستُ بدارٍ عَفت وغيّرها
ضِربان من قَطرِها وحاصبها
ولا لأي الطلولِ أنْدُبُها
للريحِ والرُقشِ من قرانبها
إلى أن يقول:
بل نحنُ أربابُ ناعطٍ ولنا
صنعاءُ والمسكُ من محارِبها
والرحلة من متعلقات هذه المقدمة الطللية؛ لذا تتخذ الرائحة علامة على الرحيل أو مرتبطة ببعض أحداثه، فهذا عبدالله بن قيس الرقيات يعرف طريق رحيل محبوبته من الرائحة الطيبة:
أقبلتُ أمشي إلى رحالهم
في نفحةٍ نحو ريحها الأرِجِ
ويقول جرير:
حُييتَ مِن زائرٍ يعتادُ أرحلُنا
بالمسكِ والعنبرِ الهندي ملغومُ
ويرتبط المكان في جوانب كثيرة له بالإنسان الذي يشارك الشاعر المكان، وتغدو رائحته جزءًا من رائحة المكان نفسه ، وسأتحدث هنا تحديدًا عن رائحة المرأة المحبوبة. فقد عرف العرب العطور والروائح المتنوعة وعدوها من أهم وسائل الزينة، التي تعكس النظافة والأناقة وجمال المرأة المحبوبة خاصة، وظهر أثر ذلك في الأدب بشقيه: النثر والشعر، فمن الأمثال إلى النصوص السردية على اختلافها إلى الشعر في أغراضه المتنوعة لا سيما غرض الغزل حتى غدت جزءًا من ثقافة المكان نفسه.
والشاعر العاشق الذي ينظم قصيدته متغزلًا بمحبوبته يوظف الرائحة وحاسة الشم في جملة الأوصاف المحببة في هذه المحبوبة، لذلك نجد كثيرًا من النماذج الغزلية تعتمد الجانب العطري للرائحة.
وقد تكون الرائحة الطيبة في المحبوبة من طبيعتها وليست مأخوذة من مصادر أخرى خارجية
يقول العرجي:
وما تطيبُ إلا إن طينتَها
من عنبرٍ خُلقت من أطيبِ الطينِ
وفي هذا المعنى يقول امرؤ القيس: وجدتُ بها طيبًا وإن لم تطيبِ
أو يكون الحديث عن مصدر الرائحة، فالمسك كما هو معروف من الغزال، وهو حيوان يقطن في مناطق كثيرة منها الجزيرة العربية، وهنا ينسجم الوصف الجمالي للمحبوبة مع جمال الرائحة ومكانها، فيقول:
هذا غزالٌ ولا عجيبٌ
تولدُ المسكِ من غزالِ
وقد تتشكل الرائحة في أماكن من الجسد ومستلزماته من لباس وغيره، ففي رائحة الشعر، يقول اليشكري:
وقرونًا سابغًا أطرافُها
غللتها ريحُ مسكٍ ذي فَنَع
وعن رائحة اللثام وما تحته، يقول عنترة:
يبيتُ فُتاتُ المسكِ تحتَ لثامِها
فيزدادُ من أنفاسِها أرَجُ الندِ
وفي رائحة اللباس، والالتفات أو الحركة التي تستدعي انتشار رائحة العطر، يقول العباس بن مرداس السلمي:
تضوَّع منها المسكُ حتى كأنما
ترّجلُ بالريحانِ رطبًا ويابسا
ويقول امرؤ القيس:
إذا قامتا تضوَّع المسكُ منهما
نسيمَ الصَّبا جاءتْ بريَّا القرَنْفُلِ
وتبرز الرائحة ممثلة في العطر، في شعر أيام العرب الذي كان يواكب الحروب والمعارك بين القبائل العربية؛ إذ كان الشعراء يذكون روح الحماسة ويشجعون على القتال، لذا كانت هذه الأحداث وشعرها وثيقة مهمة تعكس المكان وبعده التاريخي ومن ثم الأدبي. ففي عطر منشم، المرأة التي كانت عطّارة من قبيلة جرهم، وكانت القبيلة إذا خرجت لقتال خزاعة أخرجت معها منشم لتطيب الجنود، فلم يكن أحد يتطيب من طيبها إلا وقاتل حتى يجرح أو يقتل فصارت مثلًا يضرب في الشر فقيل: أشأمُ من عطرِ منشم
يقول زهير بن أبي سلمى:
تداركتُما عبسًا وذبيانَ بعدما
تفانوا ودقوَّا بينهُم عطرَ منشمِ
ويقول النابغة الجعدي:
عفتْ بعد حيّ من سُليمٍ وعامرٍ
تفانوا ودقوا بينُهم عطرَ منشمِ
ومثله المثل الذي ضرب بحليمة وعطرها.
والرائحة مؤشر على الكرم عند (حاتم الطائي) في فصل الشتاء، والمكارم جزء من ثقافة المكان، فإن حدد الشاعر الزمان فإن المكان لا يغيب هنا؛ إذ يمثل منطقة من مناطق الجزيرة العربية، فعلى ذلك الرائحة هنا هي من عبق الكرم والمكان الذي يحتضنه، يقول:
كأنَّ رياحَ اللحمِ حينَ تغطمطت
رياحُ عبيرٍ بين أيدي العواطرِ
ويشير المختصون بدراسة الفنون والآثار الإسلامية إلى أن العِطارة من الفنون العربية الأصيلة التي ارتبطت بتاريخ الجزيرة العربية قديمًا واستمرت حديثًا. وكان من أهم طرقها، طريق البخور الذي يربط بين الشرق والغرب ويمر باليمن وجنوب الجزيرة العربية.
وكانت أسواق العرب في الجزيرة العربية مثل: عكاظ وذي المجنة وسوق عدن، تستقبل البضائع للتجارة من أنحاء العالم كله، ومن أجود البضائع فيه تلك ذات الرائحة كما في العطور والطيب والتوابل، وكان العرب يعطرون بها مجالسهم، ولهذه الأسواق حضورها في الشعر العربي القديم وفي الحكايات المحيطة بها؛ فهذه الأماكن كانت تحتضن الروائح التي حضرت في الشعر.
يقول امرؤ القيس:
وبَانًا وأُلْويًا من الهندِ ذاكيًا
ورَنْدًا ولُبْنَى والكِبَاءَ المُقتّرا
ويقول سحيم بن عبد بني الحسحاس:
بعودٍ من الهند عند التِجارِ
غالٍ يخالطُ مسكًا مُدافا
والبخور كما نعلم جميعًا مادة عطرية تنتج دخانًا عطريًّا عند الاحتراق، وله استعمالات كثيرة في مختلف مناطق العالم، وفي الحضارات القديمة. ونجده في أماكن أخرى مرتبطًا بطقوس معينة في المعابد والطقوس الدينية على الأغلب. أما استعمال العرب له وإن كان يستخدم أحيانًا في تعطير المساجد إلا أنه يرتبط بفكرة التعطير والروائح الطيبة التي تزين المكان، والمساجد من خير الأماكن التي تستحق ذلك.
وأصبح حرق البخور جزءًا رئيسًا من ثقافة المكان على الرغم من مرور قرون طويلة، فما زلنا نمارس هذه العادة، ومازالت جزءًا أصيلًا من ثقافة منطقة الجزيرة العربية التي تشمل المملكة والخليج واليمن.
ويمكن أن نرصد تمثل هذه الظاهرة في بعض الأبيات الشعرية، كما في قول عدي بن الرقاع العاملي:
ربّ نارٍ بتُّ أرمقها
تقضمُ الهنديَ والغارا
ويقول العرجي:
يش بُّ متونُ الجمرِ بالندِ نارَهُ
وبالعنبرِ الهندي فالعرفُ ساطعُ
سأقف أخيرًا على النباتات العطرية وعلاقتها بالرائحة والمكان، وسأكتفي بنوع واحد، هو الخزامى، والخزامى له رائحة مميزة ومختلفة عوضًا عن شكله ولونه المحبب إلى كثيرين وأنا منهم. وقد عرفه العرب فهو من نبات بيئتهم، وذهب الأصمعي إلى أنه من أفضل النباتات العطرية عند العرب.
ولنا نحن السعوديون ذاكرة تختلط بثقافة المكان الذي حضرت فيه هذه النبتة العطرية، واللغة التي نقلت هذه الثقافة والشعر كذلك، ولعل اعتماد الخزامى شعارًا ثقافيًا ضمن مبادرة وزارة الثقافة السعودية بالتعاون مع المراسم الملكية لاعتماد تغيير السجاد من اللون الأحمر إلى لون الخزامى البنفسجي يؤكد دلالته الثقافية.
ولعل هذا الاختيار يمنح هوية خاصة للمكان أيضًا، وهذا موجود في الثقافات المختلفة؛ فنجد الورد هو الزهرة الوطنية في أمريكا، والكرز الياباني في اليابان، والأوركيد في سنغافورة، والتوليب في تركيا وهكذا.
وفي الشعر العربي إشارات إلى هذه النبتة العطرية ورائحتها الطيبة؛ إذ يشير ابن الرومي إلى الوقت الذي تفوح فيه هذه الرائحة وتعطر المكان بقوله:
وأنفاسٌ كأنفاسِ الخزامى
قبيلَ الصبحِ بلَّتها السماءُ
ويذكره النميري في وصفه لمبسم زينب أخت الحجاج:
كأن القرنفلَ والزنجبيلَ
وريحَ الخزامى وذوبَ العسل
يُعلُّ به بَرْدُ أنيابها
إذا ما صفا الكوكبُ المعتدل
ويقدمه مليح الهذلي على بقية الروائح في وصفه لزيارة طيف المحبوبة ليلا:
بريّا خزامى بطنِ فلجٍ طرقَتْنا
ويقول شاعر آخر:
كأن نسيمَها أرجُ الخزامى
ولاهُ بعد وسميٍّ وليُّ
ويقول العرجي:
تفوحُ خُزامى طلهِ من ثيابها
تخالطُ مسكًا أنبتتها الأجارعُ
ويطول الحديث عن الرائحة وتمثلاتها في الشعر القديم، إلا أن ما يجمعها في إطار واحد، النظر إلى الرائحة بوصفها علامة سيميائية دالة من منظور عبق المكان نفسه.