سالم بركات العرياني
(دخل فجأة سيد عجوز قد جلس منهكاً ومتعباً وقد سمع شيئاً ما... إنه صراخ وعويل قادم من إحدى غرفتيه التي يسكنها... يا الله ما أقبح الوحدة أحياناً ولكنها تغدو جنة خالية من الإزعاج.. رأسه يدور ويداه ترتجفان في الصباح تعوي الريح خلف الأبواب والشبابيك وفي المساء يسكن كل شيء حتى كأننا في عالم الأموات، ضيق هو القبر وموحش يقول أحد المفكرين (عليك أن تستمتع بيومك) فعلاً إنها عبارة جميلة ثم ذهب العجوز إلى مصدر الصوت تراجع فقدماه متعبتان لا تكاد تحمله أبداً فقرر أن يتراجع إلى الخلف تذكر نكتة قديمة ارتسمت على شفتيه ضحكة لبرهة الباب مغلق ولكن لا أذكر أن الأشباح تنتشر في الصيف فهي لا تتواجد سوى في الشتاء عندما يغدو المساء كئيباً وقد تلبد بالغيوم والصباح كذلك البرد يسكن في كل أرجاء المنطقة التي يسكنها العجوز.. ثأر لنفسه قائلاً كما أنا عجوز خرف وضعيف أين المسدس، بل أين البندقية حتى أغلق فم هذا الوحش لا يجوز أن أبقى وحيداً هكذا على الدوام.. من يحدث نفسه هكذا على الدوام ثم ضرب بكلتا يديه على الطاولة ثم أخذ يجول في الغرفة وحده وهو يتذكر زوجته القديمة لقد مضى عام ونصف على موتها وبدا أن رياح الصيف تقتلع الشبابيك، حيث أنها قوية لا شك فقد وجد العجوز وقد تناثر الغبار فيها وسكن الصوت حتى النهاية.)
لا شك أن هذه القصة القصيرة التي كتبتها أنا تكونت مع حبر القلم شيئاً فشيئاً فالقصة قد توحي لك بقصة وكذلك القصيدة قد توحي لك بالقصيدة ومهما بلغ الإنسان في الأدب من علو شأن ورفعة فإن مرد ذلك إلى الكتابة والإنتاج. وفي أدب القرن العشرين كما يقولون ولدت موجة عاتية من السرد كان بطلها كاتب أمريكي اسمه إرنست همنجواي وقد تطوع للعمل في الحرب العالمية الأولى على متن سيارة إسعاف وكان يسجل خواطره التي كانت تستبد به فأخرج لنا روائع الأدب في القرن العشرين كرواية (وداعاً للسلاح) في نهاية الحرب الأهلية الإسبانية وانتصار قوات الجنرال الإسباني الدكتاتور فرانكو بدعم من الطليان والألمان وقتذاك ولكن السؤال الذي كان يطرح نفسه: هل كان همنجواي مؤيداً لفرانكو وموسوليني وقتذاك؟!
بالطبع لا، صحيح أن همنجواي أحب القراءة والمطالعة ورياضة الثيران وصيد الأسماك على متن قارب في خليج المكسيك كما أنه يهوى القنص ببندقية الصيد الخاصة به، كل هذه الرياضات مجتمعه في شخص واحد جعلت منه كاتباً غنياً بالتجارب يكتب وينتج كل عام وعلى الرغم من أن الناس أحبوا بداياته في كتابه الرواية (وداعاً للسلاح) و(تشرق الشمس أيضاً) إلا أن قصة ( العجوز والبحر) قد نالت العديد من الجوائز والإشادات ما جعلت كاتبها في مقدمة كتاب القرن العشرين في أمريكا وأوروبا بالإضافة إلى ذلك أنه قد كسب جائزة نوبل في الأدب فيا لها من قصة حياة غنية بالتجارب لصعلوك مثله يعاني من الكآبة والحزن فترة طويلة.
وهناك سؤال آخر قد يجعلنا نتلمس طريقنا باتجاه أدب همنجواي وهو هل الكتابة الصحفية لها مفعول قوي في تكوين لغة الأديب أو الصحفي بعيداً عن الأسلوب المعتاد في الكتابة والتأليف علماً بأن كاتباً خالداً هو الآخر عمل في الصحافة فترة طويلة وهو تشارلز ديكنز فكيف يمكن لكاتب صحفي أعتاد نقل التقارير بأن يصبح كاتب قصة أو رواية أو حتى قصيدة متميز وصاحب اتجاه في الكتابة جديد.
مهما كثرت الأسئلة وتتابعت الأفكار فإن الحديث عن القصة والرواية في القرن العشرين حديث غير منتهي وبالخصوص عند الحديث عن كاتب بحجم وإبداع إرنست همنجواي.