عبدالرحمن الحبيب
يعتبر اللغويون أن نصف اللغات البشرية على الأقل مهددة بالانقراض؛ وقد يرى البعض أن ذلك أمر عادي فبدل اللغة لغة أخرى، لأن كثيراً منا يعتقد أن اللغة مجرد مجموعة من الإشارات والرموز لإيصال المعاني والأفكار مثل الأرقام، ومن ثم فإن جميع اللغات تصنف الأشياء وتصيغ الأفكار بشكل متشابه، مما يعني تماثل تجربتنا الإنسانية مهما كان الاختلاف في اللغة والألسن. ولكن هذا ليس هو الحال حسب الأبحاث، فللغات طريقة في التفكير والتصورات قد تختلف عن بعضها.. والباحثون وجدوا أن العديد من المفاهيم الأساسية ليست مشتركة بين كافة البشر، وأن المتحدثين بلغات مختلفة قد يرون العالم ويفكرون فيه بشكل مختلف.
توجد حوالي 7168 «لغة حية»، وفقاً لأحدث الأرقام من Ethnologue، وهي قاعدة بيانات لغوية مستخدمة على نطاق واسع. الغالبية العظمى من هذه اللغات تمثلها مجتمعات أقدم بكثير وأكثر محلية من الدول الوطنية ينطق بها أقليات متنوعة داخل دولها أو منعزلة في أطرافها، ويُعَدّ انقراض هذا الكم الهائل من اللغات خسارة فادحة للتنوع اللغوي والثراء الثقافي للحضارة البشرية.
صدر حديثاً كتاب، بعنوان «وفرة الألسنة» (A MYRIAD OF TONGUES) وعنوان فرعي: كيف تكشف اللغات عن الاختلافات في طريقة تفكيرنا؟ يأخذنا الكتاب في رحلة ممتعة وبحثية عميقة بين لغات وألسن الشعوب وتأثيرها الثقافي، لمؤلفه كاليب إيفريت، بروفيسور الأنثروبولوجي، يقدم من خلاله فحصاً مفيداً للتواصل البشري استناداً إلى النتائج التي توصل إليها الباحثون الميدانيون اللغويون وباحثو علم النفس المعرفي، وعلوم البيانات، وغيرها من العلوم.
ليس فقط اللغة تنقل الأفكار كما هي، بل هي تنظمها وتساعد في تشكيلها وتعبيرها، كما أن اللغة والثقافة مرتبطتان بشكل وثيق، حيث تؤثر اللغة في قيم ومعتقدات الشعوب الناطقة بها، وتعبر عن تاريخ وتقاليد هذه الشعوب.. فرغم القواسم المشتركة اللغوية بين اللغات الكبرى في العالم، فقد كشفت مجموعة واسعة من الأبحاث لأكثر من سبعة آلاف لغة عن تنوع لغوي ومعرفي «غير متوقع وعميق». هناك أشياء نعتقد أن البشر يتفقون في تصورها، لكن الواقع يظهر شيئاً آخر، فهم يختلفون في الإشارة: للزمان والمكان، للوقت والحيز، للألوان والروائح والأصوات وكثير من الحواس والمشاعر..إلخ. يبحث الكتاب عن علاقة اللغة بهذه المجالات وغيرها، ويعطي رؤى عميقة حول أساسيات التواصل والخبرة البشرية.
بالنسبة للزمن، يوضح الكتاب أن «بعض جوانب الوقت التي تبدو «طبيعية» جداً بالنسبة لنا نحن قد تبدو غير طبيعية للمتحدثين بالعديد من اللغات الأخرى». بعض اللغات لا تحتوي على أزمنة للإشارة إلى الماضي والحاضر والمستقبل، بينما تحتوي لغات أخرى على أكثر من ثلاثة أزمنة، وهناك لغات قد تتحدث عن الوقت كشيء مادي يُلمس وتقول الوقت «يمر بنا» بينما في لغات لا يقولون ذلك، بل هناك متحدثون باللغة الأمازونية مثل شعوب «توبي كواهب» ليس لديهم كلمة تعني «الوقت» على الإطلاق.
بالنسبة للأماكن وحتى في بيئات مماثلة، «يتحدث الناس عن الحيز بطرق لا يمكن التنبؤ بها في بعض الأحيان». على سبيل المثال، يتحدث الناس في بعض الثقافات بطريقة تحدد المكان حسب موقعها من المرء «يمين» أو «يسار»، في حين تستخدم ثقافات أخرى كلمات مركزية الأرض أو جهة الشمس مثل «شرق» و»غرب».
في الألوان نقول برتقالي نسبة للبرتقال، أو زهري أو وردي (زهرة الورد) أو بنفسجي (زهرة البنفسج) نسبة لما نراه من الزهور، لكن لدى لغات أخرى لا علاقة بين اسم اللون وهذه الأشياء، إذ تشير الأدلة إلى أن كلمات الألوان التي ننظمها تؤثر على كيفية تمييز الألوان نفسها: قد لا تظهر الوردة وردية بأي اسم آخر.
يعتمد المؤلف على كم وافر من الدراسات التي تبحث في الكلمات الحسية، مثل تلك التي تشير إلى اللون والذوق والرائحة، ليكشف عن تنوع كبير «عبر لغات العالم».. فالمصطلحات المتاحة لنا تحدد نطاق الروائح التي يمكننا التعرف عليها، على سبيل المثال تميل اللغات الأوروبية إلى استخدام عدد قليل من الكلمات ذات الرائحة المجردة، مثل «عطري» أو «منتن»، في حين أنه في بعض اللغات قد تحتوي على أكثر من اثنتي عشرة كلمة، فاللغات الغريبة تمتلك «لغة روائح فقيرة» بشكل خاص. في اللغات التي تحتوي على أسماء جنسانية: مذكر ومؤنث (العربية، الإسبانية والفرنسية والألمانية)، يتم تحفيز تصنيف الأشخاص والأشياء، «في بعض الحالات ولكن ليس في حالات أخرى، من خلال الارتباط بالجنس البيولوجي».
يساهم علم الفراسة والبيئة في التنوع اللغوي أيضاً.. يقول المؤلف: «إن العلاقة بين نوع العض والحروف الساكنة الشفوية السنية، تشير في النهاية إلى وجود علاقة بين البيئات التي يعيش فيها الناس وبعض الأصوات التي يستخدمونها لتمييز أفكارهم عند التواصل». ولكن من المثير للدهشة أن كلمة واحدة تبدو عالمية بين البشر، «تنقل فكرة مشتركة في حزمة صوتية يمكن التنبؤ بها» - وهي كلمة «هاه» أحادية المقطع.
حسب المجلة العلمية نيو ساينتست، الكتاب «دليل مؤكد» للعلاقة بين اللغة التي نتحدث بها وإدراكنا لأساسيات التجربة مثل الزمان والمكان واللون والروائح.