رمضان جريدي العنزي
مسافر أنا مع رفيق جميل، متحدان في الأمزجة، وعمرانا متقاربان، قلنا سنبحث عن فضاء فسيح، ومدن خالية من الزحام، نجدل المسافات سعيًا، نغازل النجمات ليلاً، ونرهف السمع لصوت البلابل، ونرفض من يعكر علينا صفو النهار، هي المناخات إذا ما جاءت صارت حالمة، نيمم وجوهنا شطر الفرح، ووجهتنا واضحة، وغاياتنا مثل بزوغ النهار، هو الندى تدرج في أرواحنا مثل خصال السحاب، والأرجوان نابت في حديقة زاهية، يحيل القلب إلى بلورة من ذهب، نيسان والطقس يميل نحو البرودة اللطيفة، لكنك تشعر وكأنك في ليالي الشتاء الباردة، المكان يلفه الغيم والسحاب المطير والهواء المنعش، النهار صاف كأنه لوحة زيتية فاتنة، تأخذك نحو عوالم مغايرة، كأنها البلور أو الرخام أو الصدف، أو كأنها شقائق النعمان، قطرات الندى، أو النرجس الوسنان، الليل هنا مدهش يزيده دهشة رائحة النعناع بمحاذاة الممر الطويل، شكل العشب والزهر والأشجار المتشابكة ورائحة الفل والصخور والبيوت المتناثرة، تجبرك أن تتأملها ببشاشة تامة، تستطعمها النفس، وتستنشقها الروح، تحدث في القلب بقعة ضوء، وتشعل فيه قنديل الحنين، وتأخذك بعيداً نحو مدارات الفضاء الفسيح، حقول التفاح، وعرائش العنب، وصوت العصافير والفراشات الملونة، تسورك بمشاعر أخاذة، تزرع فيك الدهشة، وتبذر فيك مشاعر مغايرة، معها يصبح التوت توتًا، والكرز كرزًا، ودالية العنب دالية، والدراق دراقًا، واللؤلؤ لؤلؤًا، منظر الحمام في سدول الغمام، والمطر يغني للروابي الخضر وحقل الأبونس يجلب لك المتعة، طوبى للسفر، للشغف القديم، للغيم والسديم، طوبى للنسيم العليل، طوبى لانسكاب الليل في جفون الحيارى، طوبى لضوء القمر، طوبى للرفيق الجميل، طوبى للحمام واليمام والطيور العابرة، طوبى للمعاني العالية، طوبى لبلورة القصيدة القابعة في الذاكرة، هو السفر أعشق اسمه، معه أصبح نورساً في مهبه، اعترف بأنني مفرط في حب السفر، مفرط في التأمل حينه، ولهي السفر، كلما اشتعلت رمال العطش في روحي أرتب أمتعتي وأرحل، فيه كأني حصان جموح، أو أقحوان في سنبلة، مع السفر للمدن المعشبة أصبح المعري والفرزدق وجرير، ويصبح صوتي مثل هديل الحمام، للسفر ندى ثلاثة عطور، في أول الليل عطر، وعند انبثاق النهار عطر، وعند حلول الظهيرة عطر، ثلاثة في قلبي: الفراشة الملونة، وزرقة البحر، والأرض المعشبة، الفراشة في خدرها، والبحر حين يموج، والطبيعة البكر، لا شغل لي عندي في السفرسوى التأمل في ملكوت الله، في غيمة تمر، في سحاب مطير، في السفر بي رغبة لسماع فيروز عند انبثاق الصباح، بي رغبة أن أرى ما وراء الفضاء المديد، أرهف سمعي للطيور الكثيفة، أركض مع الريح في مهب الأماني، وأشطر حلمي لنصفين، نصف لي، ونصف للذكريات العتيقة، مع السفر لا أود لقافلتي أن تستريح، واضح أحيانًا، وأحيانًا مثل مرايا الغموض، عطر هو السفر، شهقة عاشق، وقصيدة مطوية تحت السرير، هو السفر لا مللت منه ولا تعبت، ولا أصابني بعض الخور، ولا همتي غفت، هو السفر كلما شع الحنين في صدري، يصيبني الشوق إليه، في السفر أبحث عن محارة في القاع تاهت، أمشي في طرقات المدن، أمشي على مهل، وأمر في القرى النائية، أبحث عن ثقافة جديدة، ووجوه جديدة، وحياة مغايرة، روحي معه رقيقة، وتصبح أكثر رقة عند الشفق والغسق، هو السفر عندي مثل لوحة زاهية، أعبر فيه فجوج الزوايا، وأصبح فيه سندبادًا صار الرحيل عنده هواية وعادة.