عبدالوهاب الفايز
نعم، هناك اختلاف بين الصهيونية واليهودية..
هذا هو الأمر الأكبر المزعج الذي انفجر في أمريكا أمام القيادات الصهيونية (يهودية ومسيحية)، بعد استمرار الحرب التي تقودها إسرائيل في غزة. معرفة الأجيال الجديدة من اليهود الشباب بهذه الحقيقة تطور خطير على مشروع إسرائيل..
فهؤلاء يكتشفون الآن أنهم ظلوا ولسنوات طويلة مغيبين عن حقيقة العلاقة التي تربط إسرائيل بالمشروع الصهيوني العالمي وأهدافه الإمبريالية.
توماس فريدمان أحد رموز الجناح الليبرالي للصهيونية يرى أن إسرائيل خسرت جيلاً كاملاً من الشباب اليهودي.
مصدر الإزعاج الأكبر للصهاينة هو دخول النخبة الكبيرة المتميزة من المفكرين والمؤثرين الإعلاميين اليهود لقيادة حملة التنوير لليهود بخطورة ما تفعله إسرائيل عليهم، وشعار حملتهم: (ليس باسمنا)، أي ما تقوم به إسرائيل من مجازر بحقّ الفلسطينيين أمر يخص إسرائيل ولا يمثل اليهود.
وتبلغ ذروة هذه الحملة في مظاهرات الطلاب المستمرة بالجامعات الأمريكية الكبرى.
والرفض اليهودي للصهيونية ليس جديداً، فالمعروف أن السياسي والبرلماني البريطاني إدوين مونتاجو هو العضو اليهودي الوحيد في مجلس الوزراء البريطاني الذي رفض بشدة إعلان فلسطين وطنًا لليهود عندما ناقش البرلمان طلب حاييم وايزمان بدعم إنشاء وطن لليهود في فلسطين عام 1917. وهذه كانت من المفارقات أن اليهودي كان يمثل أكبر عقبة متبقية أمام قبول مجلس الوزراء لـ (وعد بلفور).
كان إدوين مونتاجو خصم الصهيونية الأكثر مرارة، فقد كان يرفض العقيدة السياسية الخبيثة للصهيونية، وهاجم فكرة أن اليهود أمة، وكان يرى أن تجميع اليهود في فلسطين سوف يجعل سكانها أجانب، وبالتالي سوف يعامل اليهود في بلادهم غير مواطنين. وفي مذكرة غاضبة إلى زملائه أعضاء مجلس الوزراء في أغسطس 1917، ذهب إلى حد الإعلان عن أن الاقتراح المعروض على الحكومة سيكون (معاديًا للسامية)..
وفي النتيجة سيشكل أرضية لحشد معاداة السامية في العالم.
أما في أيامنا هذه، فأقوى هجوم على فكرة الصهيونية - في تصوري - جاء في كلمة الأكاديمية والإعلامية اليهودية المعروفة نعومي كلاين، (مؤلفة كتاب عقيدة الصدمة)، يوم 26 أبريل الماضي وسط الطلاب المعتصمين في جامعة كولومبيا في نيويورك. لقد وصفت الصهيونية بـ (الصنم الزائف) الذي يأخذ أعمق (قصصنا الكتابية عن العدالة والتحرّر من العبودية - قصة عيد الفصح بحد ذاتها - ويحولها إلى أسلحة وحشية لسرقة الأراضي الاستعمارية، وخرائط طريق للتطهير العرقي والإبادة الجماعية).
لقد تضمنت كلمتها أموراً لم تكن القيادات اليهودية الصهيونية تتوقع أن تسمعها في نيويورك. لقد ألقت كلمتها في الحشود الطلابية في الشارع وقريباً من منزل تشاك شومر اليهودي، زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ الأمريكي. لقد وصفت كلاين الصهيونية بالصنم الزائف الذي (اتخذ الفكرة المتعالية للأرض الموعودة - كناية عن تحرير الإنسان والتي سافرت عبر ديانات متعددة إلى كل ركن من أركان هذا العالم - وتجرأ على تحويلها إلى صك بيع لدولة عرقية عسكرية.
إن نسخة التحرير التي تطرحها الصهيونية السياسية هي في حد ذاتها دنيوية. منذ البداية، تطلب الأمر الطرد الجماعي للفلسطينيين من منازلهم وأراضي أجدادهم في النكبة).
وقالت أيضاً إن الصهيونية (منذ البداية أنتجت نوعاً قبيحاً من الحرية التي نظرت إلى الأطفال الفلسطينيين ليس كبشر، بل باعتبارهم تهديداً ديموغرافياً - تماماً كما كان الفرعون في سفر الخروج يخشى تزايد عدد السكان الإسرائيليين، وبالتالي أمر بقتل أبنائهم.
لقد أوصلتنا الصهيونية إلى لحظة الكارثة الحالية..، إنها صنم زائف قاد الكثير من شعبنا إلى طريق غير أخلاقي للغاية، مما جعلهم الآن يبررون تمزيق الوصايا الأساسية: لا تقتل، لا تسرق، لا تطمع. إنها صنم زائف يساوي الحرية اليهودية بالقنابل العنقودية التي تقتل وتشوه الأطفال الفلسطينيين).
وقالت أيضاً: (واليوم، يبرر هذا الصنم الكاذب قصف كل جامعة في غزة؛ تدمير عدد لا يحصى من المدارس، والأرشيف، والمطابع؛ قتل مئات الأكاديميين والصحفيين والشعراء - هذا ما يسميه الفلسطينيون قتل المدارس، أي قتل وسائل التعليم. وفي هذه الأثناء، في هذه المدينة، تستدعي الجامعات شرطة نيويورك وتحصن نفسها ضد التهديد الخطير الذي يشكله طلابها الذين يجرؤون على طرح أسئلة أساسية عليهم، مثل: كيف يمكنك أن تدعي الإيمان.. بينما تقومون بتمكين هذه الإبادة الجماعية والاستثمار فيها والتعاون معها؟).
ومضت تقول: (لقد سُمح لوثن الصهيونية الزائف بالنمو دون رادع لفترة طويلة جدًا. لذلك نقول الليلة: إنها تنتهي هنا.
لا يمكن أن تحتوي يهوديتنا دولة عرقية، لأن يهوديتنا أممية بطبيعتها ولا يمكن حماية يهوديتنا من قبل المؤسسة العسكرية الهائجة لتلك الدولة [إسرائيل]، لأن كل ما يفعله الجيش هو زرع الحزن وحصد الكراهية - بما في ذلك ضدنا كيهود.
يهوديتنا ليست مهددة من قبل الناس الذين يرفعون أصواتهم تضامناً مع فلسطين من كل الأطياف.
يهوديتنا هي واحدة من تلك الأصوات وتعرف أن في هذه الجوقة تكمن سلامتنا وتحررنا الجماعي).
وقالت: (نحن نسعى لتحرير اليهودية من الدولة العرقية التي تريد أن يشعر اليهود بالخوف الدائم، وتريد أن يخاف أطفالنا، وتريد منا أن نعتقد أن العالم ضدنا، حتى نركض إلى حصنها وتحت قبتها الحديدية، أو إلى، على الأقل، الحفاظ على تدفق الأسلحة والتبرعات).
وأقوى ما جاء في كلمتها ورد في ختامها،، قالت: (من نحن؟ نحن في هذه الشوارع منذ أشهر وأشهر، نحن النزوح والخروج من الصهيونية).. ثم وجّهت خطابها - بكل تحد - إلى زعيم الأغلبية اليهودي تشاك شومر.
قالت: (في هذا العالم، لا نقول دعوا شعبنا يرحل نقول: لقد ذهبنا بالفعل. وأطفالك؟ إنهم معنا الآن). وهذه كانت رسالة للقيادات اليهودية وحظيت باهتمام واسع. لقد قالت وباختصار: نحن بحاجة إلى هجرة جماعية من الصهيونية!
الحرب في غزه كشفت الاختلاف والفرق الكبير بين اليهودية والصهيونية، وهذا طارئ فقط للذين لا يعرفون التاريخ. قبل عقود، عبدالوهاب المسيري ذكر في أكثر من مرة أن الصهيونية ظاهرة استعمارية غربية تعود جذورها إلى الثورة الرأسمالية في الغرب، فالفكرة الصهيونية المحورية - كما يقول - أي العودة إلى فلسطين، (ليست فكرة يهودية كما يظن الكثيرون، وإنما فكرة نبتت في الأوساط البروتستانتية المتطرفة، ثم الأوساط الاستعمارية المعادية لليهود، والفكر الصهيوني تبلورت أطروحاته الأساسية في كتابات صهاينة غير يهود قبل أن يتبناه بعض الكتاب من أعضاء الجماعات اليهودية).
لقد تبنى البريطانيون مشروع إنشاء الدولة اليهودية في العالم العربي لأجل أهدافهم الاستعمارية للهيمنة على ثروات المنطقة وتفكيكها.
إسرائيل مشروع غربي برعاية وحماية أمريكية، وسوف تبقى لهذا الدور، وهذا يفسر هذه الانتفاضة الأمريكية الغربية لحماية المشروع الاستيطاني الغربي.
ولهذا السبب يقول اليهود إن إسرائيل لا تمثّل اليهود واليهودية، إنها تمثل الصهيونية.
ماذا يفعل العرب والمسلمين لاستثمار هذا التطور في الوعي؟ هذا هو السؤال الصعب!