د.أحمد بن عثمان التويجري
في غمضة عين رحل عنا أمير من أمراء الشعر ومبدع فذ من أفذاذ صاغة الكلمات. كان أميراً بأخلاقه ولطفه ومكارمه قبل أن يكون أميراً بنسبه. أجمعت قلوب عارفيه على محبته واحترامه. لم يعرف الحقد ولا دخل في خصومة مع أحد طيلة حياته، فقد شغله حبه للشعر وولعه بالجمال عن جميع الشواغل. كان أنيقاً رقيقاً في كل شأن من شؤون حياته، ولم يُرَ إلا مبتسماً رغم كل ما عاناه في حياته بسبب مشاعره الجياشة وقلبه الحنون. تعرفت عليه في مطلع الثمانينيات الميلادية وحالت الجغرافيا دون تلاقينا كما كنا نود وإن كانت المناسبات الاجتماعية وبخاصة الأفراح والمناسبات الرسمية تجمعنا بين الحين والحين. كان آخر لقاء بيننا على ضفاف بحيرةليمان في سويسرا عندما تشرفت باستضافته واستضافة أخي وصديقي العزيز الدكتور إبراهيم العواجي على العشاء. كان لقاءً أسرياً بهيجاً وليلة جميلة من ليالي العمر التي لا تُنسى.
تميّز رحمه الله في سيرته بالبساطة والتواضع وحب الخير. وكان حييّاً في منتهى اللطف يشعر كل من يلقاه بأنه من أقرب الناس إليه. وفي مجال الشعر كان مجدداً وصاحب مدرسة متميزة لم تنهض بالشعر الدارج فحسب وإنما نهضت بالشعر الغنائي ونقلته إلى آفاق جديدة ومسارات لم تكن مطروقة من قبل. كان وطنياً من الطراز الرفيع ومن أجمل قصائده قصيدته الوطنية المغناة المشهورة التي يقول فيها:
فوق هام السحب وان كنتي ثرى
فوق عالي الشهب يا اغلى ثرى
مجدك لقدام وامجادك ورى
وان حكى فيك حسادك ترى
ما درينا بهرج حسادك ابد
انت ما مثلك بهالدنيا بلد
والله ما مثلك بهالدنيا بلد
من على الرمضا مشى حافي القدم يستاهلك
ومن سقى غرسك عرق دمع ودم يستاهلك
ومن رعى صحرا الضما ابل وغنم يستاهلك
حنا هلك يا دارنا برد وهجير
حنا هلك يا دارنا وخيرك كثير
من دعى لله وبشرعه حكم يستاهلك
ومن رفع راسك على كل الأمم يستاهلك
ومن ثنى بالسيف دونك والقلم يستاهلك
نستاهلك يا دارنا حنا هلك
أنتي سواد عيوننا شعب وملك
ومن أجمل ما أثر عنه في هذا المجال قوله في مقابلة أجرتها معه قناة الإخبارية السعودية وأظنها آخر مقابلة ظهر فيها: «أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن نبينا محمداً عبده ورسوله ثم أشهد أن هذا الوطن منا قبل أن يكون لنا».
بَدْرُ مَا مِتَّ بَلْ أَرَاكَ تَسِيرُ
لَيْتْ شِعْري وَهَلْ تَمُوتُ البُدُورُ؟
رُبَّ وَمْضٍ وإنْ تَنَاءَى سَيَبقى
وغيابٍ يكونُ فيهِ الحُضورُ
وافتراقٍ يكون مِنْهُ التلاقي
وَرَحِيلٍ رِكَابُهُ سَتَحُورُ
وَابتعادٍ يكونُ منهُ التداني
وَمَمَاتٍ يَكونُ فيهِ النُّشورُ
مُلْهَمَ الشِّعرِ يا جَميلَ السَّجايَا
ياَ نَقِيّاً قد طَابَ مِنكَ الضّميرُ
كُنتَ نَبْعَاً من المَكارمِ عَذباً
وَعَزاءً لِمَنْ جَفاهُ عَشيرُ
وَهَديلاً للسّاهرينَ اشتياقاً
وَنَسيماً إذا اسْتَحرَّ الهَجيرُ
كُنتَ لَحناً يا سيّدَ الشعرِ حلواً
وَنَشيداً لِلحُبِّ أنَّى تَسيرُ
مُلهَمَ الشِّعرِ ليسَ تَفنَى السّجَايا
هِيَ سِفْرٌ كتابُهُ مَنشُورُ
وشُمُوسٌ مَهْمَا تَوارتْ بِلَيلٍ
هِيَ دِفءٌ مِلءَ الوُجُودِ وَنُورُ
وَهْيَ نَهرٌ عَذْبُ المَنابعِ صَافٍ
وخِضَمٌّ هيهاتَ يَوماً يَغُورُ
مُلهَمَ الشِّعرِ سَوفَ تبقى أميراً
بِسَجاياكَ يا لَنِعمَ الأميرُ
وشَجَيّاً تُشْجِي المُحِبينَ مَهمَا
طالَ ليلٌ وغَيّبتكَ القُبُورُ
رحم الله أخي وصديقي بدر بن عبدالمحسن وتغمده بعفوه وكرمه وإحسانه وأحسن الله عزاء الوطن والقيادة والشعر ومكارم الأخلاق فيه، وجمعنا به في جناته، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا: {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.