د. محمد بن إبراهيم الملحم
سأتحدث اليوم عن رسم الشخصيات من حيث أداء الممثلين (لا من حيث القصة ذاتها)، وأبدأ ببطل القصة أبوعيسى الذي هو حسب القصة وبموجب ما يقتضيه واقع حال المجتمع الأحسائي ذلك الوقت يمكن تصور شخصيته رجلاً كبيراً في السن غنياً وصاحب كاريزما قيادية؛ (لنجاحه الكبير في تجارته) ولكنه في نفس الوقت باطش ظالم، ومثل هذه الشخصية لا تكون في العادة خفيفة الحركة كثيرة الكلام كما رسمها أداء عبدالمحسن النمر، بل غالباً يكون شخصاً ثقيلاً رزيناً في حركته وفي كلامه، فأوامره كلمات محدودة انعكاساً لخيلائه على غيره وقوة نفوذه وسيطرته، بينما أدى الممثل عبدالمحسن النمر هذه الشخصية بطريقة مغايرة تماماً لما تتوقعه عنها، فلديه مبالغات تمثيلية overacting لا تتناسب وشخصية الدور، خصوصاً تلك التي تنقل المشهد إلى جو فكاهي ساخر أحياناً، لا يتناسب مع كاريزما هذه الشخصية، والأهم خفة الحركة وكثرتها للشخصية يشعرك بأنك أمام شاب طائش وليس شخصاً كبيراً له هيبة الوجاهة وقوة النفوذ.
إن قراءة القصة بمنظور بيئتها التي رسمت فيها مكاناً وزماناً يجعلنا نتصور «أبوعيسى» رجلاً قوي القلب محدود النظرات، فإذا حضر في المشهد تشعر بهيبة حضوره كمشاهد لا أن تتوقع أن تضحك، كما أنه من شديد التناقض ما ظهر لنا من كونه شخصاً خائفاً جداً يُرهِبه أقل شيء، وهنا أود من المشاهد الكريم أن يحرِّك خياله بقوة في تصور كيف سيكون شكل المسلسل لو ظهر «أبوعيسى» بالصورة الواقعية التي كان يجب أن يكون عليها. لا شك أن تأثير سطوة شخصيته سيكون أمضى أثراً وأعمق في التعبير وسينقل المسلسل درجات عدة في سُلَّم تميزه. ولا أدري في الواقع هل كان السبب ارتجال الممثل عبدالمحسن ذاته أم رسمت له الشخصية كذلك، وعلى أي الحالين فشخصية القصة ظُلمت بهذا الرسم، ولابد من الاعتراف في الوقت نفسه بأن الأداء التمثيلي للفنان عبدالمحسن النمر كان مبهراً وقوياً ومتقناً (كصنعة تمثيلية: أداءً ونصاً وإيماءات ولغة جسد وتفاعلاً شمولياً)، وهو ما لا يُستغرب من ممثل متمكن مثله.
«أبوفرحان».. تأثرت هذه الشخصية بكاريزما الممثل إبراهيم الحساوي التمثيلية التي يغلب عليها الأداء المسرحي، ففي كثير من المشاهد تشعر بأنك في المسرح ولست في مسلسل، وأتفق مع تعليق في تغريدة للدكتور إياد مدني حول نمطية الأداء لهذه الشخصية، بيد أنه من المنصف أن أقول إنه كان أحياناً مناسباً لطبيعة الدور في بعض المشاهد التراجيدية أو التعبيرية، حيث تطلَّب الموقف فيها مثل ذلك، ولكنه لا يناسب في مواقف كثيرة أخرى كان أجدر أن تقدم الشخصية فيها بكاريزما مختلفة، ومرة أخرى يحتار الناقد أمام هل كان السبب مجرد أداء ممثل مشهور أم فُرض عليه رسم درامي للشخصية بهذه الطريقة، وفي الواقع كان هناك شيء من التناقض في رسم هذه الشخصية السيكولوجي والمعرفي، ففي حين أنه شخص محدود الإمكانات فهو مثقف ويملك الكتب! وفي حين أنه تزداد ثقافته ووعيه بالتحاقه بأرامكو، فإنه يعود ليمارس دوراً غبياً بطرد زوجته «الغالية» دون تثبُّت! ويمكننا بقليل من الخيال تصوره شخصاً مغلوباً على أمره، غير مثقف، بسيط التفكير بدرجة تتناسب وإلقاء ابنه «الوحيد» لدى أبوعيسى، وساذجاً قليلاً بدرجة يمكن بها خداعه بواسطة شخص غبي مكشوف مثل زميله بأرامكو، وكل تلك البساطة والسطحية في التفكير ستبرر التصرف الأهوج مع زوجته، ثم انكساره وهروبه من القرية إلى الجبل ثم إقناعه بسهولة من زملائه وعودته.
فرحان.. ظهر لنا ولداً متعِباً لأهله لم يرشُد بعد، لكن الفئة العمرية للمثل مع طول قامته لا تتوافق مع هذه الرسمة للشخصية، فمثل هذه الفئة العمرية ذلك الوقت كان رجلاً يعتمد عليه بل ربما أن بعضهم يتزوج في ذلك العمر، ولا يمكن تصور أب يترك ابنه يصل إلى هذا العمر دون أن يكون قد انتهى من تربيته و»مرجلته»، بينما هذا المسلسل يخبرنا بأنه لا يزال يتدرج في هذا الطور، وحتى يقنعنا المخرج أن فرحان ولد صغير (بزر) جعله يقفز هنا وهناك في الشارع ويرفع ثوبه راكضاً مع بقية الأطفال، ولو نجح المسلسل في العثور على فتى أصغر سناً من ممثلي الأحساء الرائعين الذين أعرف توافر مثل هذه الخامة بينهم، لكان وقْع شخصية فرحان أكثر عمقاً وتأثيراً وأكثر انتماءً لما اتجه له مسار القصة من جهة وجوها التاريخي من جهة أخرى.
حاول الممثل الصاعد أن يبذل جهداً تمثيلياً في هذه الشخصية المحورية والمهمة ولكنه لم يمتلك بعد ما يكفي من المهارات ليقنعنا بها، ورسمها لنا بطريقة مغايرة لما يمكن أن تكون عليه، ربما بكثير من التقريب أقول إن فرحان القصة هو أوليفر تويست الأحساء، لكن فرحان الممثل لم يدخلنا في اندماج عاطفي مع هذه الشخصية على النحو الذي يفعله أوليفر تويست القصة، وهذا ليس تقصير الممثل الذي بذل جهده وإمكانياته، وإنما هو ربما قصور توافر المواهب الشابة الأحسائية القادرة على توفير طاقة الدمج هذه أو ربما هو قصور تدريبها باحترافية، وربما هو السيناريو والإخراج معاً، لا أدري ولا أريد أن أكثر من التحليل هنا رأفةً بالممثل الشاب الذي انطلق بهذا المسلسل في أول مشواره، وقد أدى أداء جيداً في مشاهد الغضب والانفعال، لكن أهمس في أذنه أن يتدرب أكثر ويحرر نفسه من قيود النص، ليتحرك جسده بطواعية أكثر مع الشخصية ويخرج من حالة الأداء الميكانيكي الذي انتابه في عدد من المشاهد.
زميله الذي أدى دور أحمد كان أكثر تحرراً وتلقائية منه في حركته وانفعالاته وتفاعله مع موقف المشهد، لقد أقنعني أحمد كممثل أكثر من فرحان وكلاهما منطلقان وينتظرهما مستقبل واعد، ولابد من الإشارة إلى أن جميع الشباب والفتيات قدموا أداءً متقناً ومتميزاً بالنسبة لأعمارهم الفنية وأول ظهورهم. كما أنوه بأن رسم بقية الشخصيات وتقمصها بممثليها كان ناجحاً جداً خصوصاً الشخصيات النسائية كلها (باستثناء المعلمة التي كان في مشاهدها مبالغة وتكلفاً)، وقد نجح رسم شخصيات كل من رويشد وعتيق والدكتور وأبو أحمد وأبو موسى (مع إشكاليات اللهجة بالنسبة للأخيرين)، وحتى صاحب القهوة الحجازي، وبالمناسبة ولمعلومية القارئ الكريم فقد كانت فعلاً هناك قهوة قريبة من القيصرية وحي الرفعة محل القصة وتقدم الشيشة وتسمى «قهوة مطير» وصاحبها من الحجاز فعلاً واسمه مطير الهذلي -رحمه الله-.