د. عبدالحق عزوزي
تعتبر النظريات والمبادئ في السياسات الخارجية أدوات منظمة ومُسيِّرة للعديد من القضايا ذات التحديات المشتركة، وتكون ذات حمولة استراتيجية محددة المعالم والتوجهات، تساعد متخذي القرار على تقوية سياستهم الخارجية وجعلها في منأى عن الهفوات والأخطاء.
في رسالة كان قد سلمها إلى الكونجرس الأمريكي في الثاني من ديسمبر 1823، أعلن الرئيس الأمريكي جيمس مونرو عن «مبدأ مونرو» القاضي بضمان استقلالية كل دول نصف الكرة الغربي ضد التدخل الأوروبي، بمعنى أنه لن يسمح بتكوين مستعمرات جديدة في الأمريكتين، كما لن يسمح للمستعمرات الأمريكية التي كانت قائمة بالتوسع في حدودها، وكل ذلك باسم عدم التدخل وعدم الاحتلال، وقد أعطى هذا المبدأ نتائجه المرجوة.
وفي مارس 1947، أعلن الرئيس الأمريكي هاري ترومان عن مبدئه القاضي بمساعدة الشعوب الحرة التي تكافح ضد الخضوع للأقليات المزودة بالسلاح أو الضغوط الخارجية، «لأن بذور الأنظمة الشمولية الديكتاتورية -حسب تعبير ترومان- تغذيها دائماً عوامل الفقر والحاجة، وتصل إلى قمة تطورها ونموها حين يموت أمل الشعب في تحقيق حياة أفضل، ويجب علينا أن نبقي على هذا الأمل حيّاً في النفوس»؛ وكان لمبدأ ترومان الفضل في نشر الوعي لدى الشعب الأمريكي على ضرورة قبول مسؤولياته في الدفاع عن الشعوب المستضعفة، وإظهار استعداد أمريكا لمعارضة «تكتيكات المسالمة»، وإيقاف الانتصار الشيوعي المتوقع في اليونان بعد قرار الحكومة البريطانية قطع المعونة عن هذا البلد، وما كان قد سيترتب على ذلك من نجاح الشيوعيين في قلب نظام الحكم في اليونان، ومن ثم تسريب العدوى إلى كل الفضاء المتوسطي؛ وقد أصبحت اليونان بعد تفعيل هذا المبدأ أكثر قوة من أي وقت مضى.
ثم جاء مشروع مارشال في يونيو 1947، حين عيّن ترومان الجنرال جورج مارشال وزيراً لخارجيته، وأعلن عن مبدئه الهادف إلى مساعدة أوروبا اقتصاديّاً، وهذا ما حدا بوزير الخارجية السوفييتي الشهير «مولوتوف» للتصريح بأن مشروع مارشال يُعّد نوعاً من الاستعمار الجديد.
وبموجب مشروع مارشال أنفقت أمريكا ما يزيد على 12 مليار دولار لدعم اقتصادات أوروبا الغربية، وكانت لهذا الدعم الأمريكي نتائج ملموسة ليس على الاقتصاد فحسب بل وحتى على الاستقرار السياسي في الدول الأوروبية. وعلى ضوء ما يقع الآن في مصر وتونس، وغياب سياسة تنموية غربية لهاتين الدولتين قصد مواجهة عواقب اللامجهول وعدم الاستقرار السياسي المعروف في أدبيات الانتقال الديمقراطي التي تأتي من الثورات، تعتبر تجربة مارشال نموذجية لأنها تساعد العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية الأوروبية التي يمكن أن تقوم في ظلها المؤسسات الحرة.
وفي سنة 1968، أعلن الاتحاد السوفييتي البائس عن مبدأ بريجنيف نسبة للزعيم ليونيد بريجنيف، وهذا المبدأ هو شبيه بمبدأ ترومان ولكن في الخط المعاكس حيث يسعى إلى دعم كل التوجهات المعادية للمصالح الغربية والتدخل المباشر في الشؤون الداخلية للدول؛ وكان من نتائج ذلك، تطوير التقارب السوفييتي- الكوبي والتدخل السوفييتي في براغ سنة 1968 وغزو أفغانستان عام 1979.
وفي سنة 1989، جسدت شهادة وفاة الحرب الباردة في مبدأ فاجأ العالم، عندما سئل الناطق الرسمي باسم جورباتشوف، عن مدى فعالية مبدأ بريجنيف فيما يقع من موجات ديمقراطية في كل من هنغاريا وبولونيا، فأجاب الناطق الرسمي بأن المبدأ الذي يجب أن يطبق هو مبدأ «سناترا» (إشارة إلى أغنية طريقي My Way للمغني الأميركي المشهور فرانك سناترا) وليس مبدأ بريجنيف، وهذا ما ولّد موجات من الديمقراطية في أوروبا الشرقية.
إن كل هذه النظريات أو المبادئ وغيرها، التي غالباً ما كانت تأخذ أسماء مفعليها، كانت لها تأثيرات مباشرة على القضايا التي تناولتها بل وأثرت على مجريات التاريخ لعقود عديدة. أما اليوم فأوروبا مثلاً لا تتوفر على أدنى مبدأ يمكن أن يميز سياستها الخارجية الموحدة أو يجعلها تأتي بسياسات وأفكار مؤثرة. وحتى الولايات المتحدة الأمريكية، صاحبة المبادئ والنظريات التاريخية في سياستها الخارجية لم تستطع إلى حد الآن صياغة مبادئ تاريخية على الرغم من أنها تعج بالمنظرين في العلاقات الدولية، وقد اعترفت الإدارة الأمريكية مراراً أنها تتعامل مع أوضاع تاريخية سرعتها غير متوقعة، وترد على كل ما حدث عندما يقع، بمعنى التعامل كردة فعل لواقعة بدلًا من التفكير أو اتخاذ أي دور قيادي فيه!
وعندما تتصفح أشهر الجرائد والمجلات الأوروبية وتستمع لتصريحات وزراء الخارجية الأوروبيين، تجد أن شغلهم الشاغل فيما يحدث اليوم هو تبعات الهجرة من الضفة الجنوبية وأسعار النفط التي يمكن أن تؤثر على اقتصادهم ومجتمعاتهم والأزمة الاقتصادية؛ والراهن أن أوروبا وأمريكا تضعان اليوم مبدأ جميلاً يمكن أن نسميه بمبدأ الصفر: تغييرات ولكن لا شيء في المقابل.