د.محمد بن عبدالرحمن البشر
ليس بالضرورة أنّ التاريخ مُنصفٌ، ومن المؤكد أن هناك عوامل سياسية وقبلية وجهوية أبرزت شخصيات سلط عليها التاريخ ضوءه، بينما غفل أوتغافل عن بعض مَن صنعوا شيئاً يستحقون به مكانة تاريخيّة مهمة، ولابد لنا أيضاً الإشارة إلى ما يقوم به التلاميذ أو الاتباع من جهد يرفع شأن صاحبهم، بينما غفلة آخرين قد تحرمنا من التعرف على من هم أجدر، كما أن عدم تدوين بعض القصص لسبب أو لآخر تفقد الأجيال اللاحقة الكثير من معرفة الظروف الاجتماعية والاقتصادية السائدة فيما سلف من الأيام، وهذا الأمر قائم في كل جهات المعمورة، ومثال على ذلك الكتب التي كتبت عن المسلمين في الأندلس من قبل أدباء ومؤرخين غير مسلمين، والذي استمر حتى القرنين الماضيين حيث حاول البعض نبش الحقائق وتصحيح المسار. وينطبق ذلك أيضاً في كتابات المؤرخين والأدباء المسلمين، ومثل ذلك ظاهر في كل زمان ومكان حتى يومنا هذا، والحرب العالمية الأولى والثانية وما صاحبها من أحداث، ربما يكون بعض مما دوّن حولها يقع تحت هذا النعت.
المغمور الأول هو مسلمة بن عبدالملك بن مروان، وهو أخ غير شقيق للخلفاء الوليد وسليمان وهشام ويزيد، والتاريخ قد سطر مآثر والده وبعض إخوانه، كما كتب المؤرخون، عنه، لكن القليل من الناس يتداول إنجازاته ومواقفه، لأنه لم يتولَّ الحكم، والبعض يرى أنه أجدر بني عبدالملك بذلك، وقد كان ميدانه القتال ونشر الإسلام وصد هجمات الأعداء فحفظ الثغور، وفتح تركيا، وأرمينيا، وأذربيجان، وداغستان، والقوقاز، وجورجيا، ورد محاولات اليونانيين وغيرهم، وقد وصل إلى القسطنطينية وحاصرها وكاد أن يفتحها لولا خيانة ليون أحد حلفائه الرومان، وجاء البلغار بجيوشهم لفك الحصار، كما أن الثلوج أيضاً حاصرت جيش سلمة، فأمره الخليفة الجديد عمر بن عبدالعزيز زوج أخته أن يعود بجيش المسلمين خوفاً عليهم، وبقي مستشاراً لديه، وارتبط معه بعلاقة ممتازة، ولم يسمح له الخليفة عمر بن عبدالعزيز بأي نشاط عسكري، وقد ندبه أخوه الخليفة الجديد يزيد بن عبدالملك إلى محاربة يزيد بن المهلب بعد أن فشلت محاولات من سبقه في الإطاحة به، وقصة يزيد بن المهلب قصة مشهورة ترتبط بالحجاج، وابنته التي تزوجها الخليفة يزيد، وكذلك أخت يزيد بن المهلب التي كانت تحت الحجاج، وكانت جميلة بليغة، فكرهت الحجاج لسجنه وتعذيبه أخيها يزيد وإخوانها الآخرين وآل المهلب، وقد آثرها الله على الحجاج وتزوجها عبدالملك آنذاك، وقد استطاع مسلمة بن عبدالملك أن يطيح بيزيد بن المهلب ويقضي على تمرده، فكافأه الخليفة يزيد بأن جعله والياً على البصرة والكوفة وخراسان لفترة محدودة، والحقيقة أن إخوانه اعتادوا على استدعائه بعد كل فترة من حروبه للاستفادة من مشورته ورأيه، وربما أيضاً خوفاً من المنافسة.
مغمور آخر هو سنان بن سلمة الهذلي، هذا القائد العظيم هو الذي فتح السند والهند في زمن معاوية، وليس محمد بن القاسم، وكان مقاتلاً شجاعاً ولد يوم الفتح، وسمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سنان، وكان والده من المشاركين المميزين في الفتوحات الإسلامية، وواصل مسيرة أبيه، وخاض الحروب، وفتح الله على يده السند وجزءاً كبيراً من الهند، ووصل إلى مدينة مكران وفتحها وجعلها عاصمة لتلك الديار، وكان صبوراً على القتال حالف الجنود على الطلاق، وهو أول وربما آخر من فعل ذلك، وقال أحد الشعراء في ذلك أبياتاً، وقد تولى إمارة البحرين واليمامة، والبصرة، وخراسان في فترات مختلفة، كما تولى إمارة الهند والسند مرتين، وتوليه الهند للمرة الثانية لها قصة، فقد كتب معاوية إلى زياد بن أبيه والي العراق، أن يشير عليه بمن يتولى ولاية السند والهند فاختار زياد لذلك المنصب الأحنف بن قيس، وسنان بن سلمة، فعندما وصل اسما المرشحان إلى معاوية، كتب إلى زياد، بما تريدنا أن نكافئ الأحنف، ألخذلانه أم المؤمنين، أم قتاله لنا يوم صفين، ولِّ سنان، فلما وصل الجواب إلى زياد، كتب إلى معاوية أن لدى الأحنف من الشرف والسؤدد، والحلم، مالا ينفعه معه ولاية، ولا يضره عزل، ثم أرسل سنان، وذهب إلى هناك، وقد افتتح مدينة اسمها قصد، وبقي بها فغدر به أهلها وتوفي هناك، وقبره موجود في منطقة خوردار بباكستان.
في الفترة الثانية من فتح الهند والسند في زمن الحجاج، بعد تمرد حدث كان القاسم الثقفي عم الحجاج والي البصرة من قبل ابن أخيه الحجاج، وكان محمد بن القاسم شاباً في عمر السابعة عشرة، وقد اختاره الحجاج ليقود الجيش الذي سيقضي على التمرد، ويبدو أن الحجاج اختاره بدافع سياسي حتى تجتمع القادة الكبار من قبائل شتى على رجل يمثل الحجاج نسباً، وكان بالجيش أربعة قادة لهم من الدراية والخبرة والشجاعة الكثير، منهم موسى بن سنان الهذلي، فكان الفتح عظيماً.