ميسون أبو بكر
كانت ليلة استثنائية، حملتنا لعصور غابرة وعرب بائدة، تأرجح يقيننا عنهم بين الخرافة والحقيقة التي أكدتها جغرافيا بطليموس وكل الآثار التي شهدت لقبيلتي طسم وجديس. وحكاية زرقاء اليمامة التي ولعت بها منذ نعومة أظفاري، المرأة التي تتكحل بالإثمد فترى الاشياء عن بعد ثلاثة أيام.
مُثلت زرقاء اليمامة والقبيلتان في مسرح مركز الملك فهد الثقافي الموشح بستار موشّى بالسدو، حيث يأخذك المشهد من اللحظة الأولى لعراقة الماضي وسحره قبل أن يفتح الستار على الاوركسترا الإيطالية وفناني الأوبرا الذين شدوا بكلمات عربية ملحمة «زرقاء اليمامة» الأوبرا السعودية التي أعاد كتابتها الأديب المبدع صالح زمانان.
على خشبة المسرح بدت الصحراء كبراكين تصطلي بشمسها الحارة والسراب ممتد للانهاية، لوحات فنية متتالية ورائعة ابدع مصمموها على وضع المشاهدين في أجواء غابرة، وموسيقى تتحدث بلغتها الخاصة، وتتنقل بأحاسيسهم إلى العمل الأوبرالي الرائع والأول من نوعه.
الصوت الاوبرالي المصحوب بعزف الاوركسترا الايطالية أعادنا لقصائد الأعشى الذي سكن اليمامة، وكتب عن زرقاء اليمامة التي لم يصدقها قومها فتمكن العدو منهم وشقوا عينيها.
إذ نظرتْ نظرةً ليست بكاذبة
إذ يرفّعُ الآلُ رأسَ الكلب فارتفعا
قالت: أرى رجلاً في كفِّه كتِف
أو يخصِف النعلَ، لهفي أيّةً صنعا!
فكذّبوها بما قالت فصبّحهم
ذو آلِ حسّانَ يُزْجي الموتَ والشِّرَعا
فاستنزلوا أهلَ جوّْ من منازلهم
وهدّموا شاخصَ البنيان فاتَّضعا
فكما هي «داحس والغبراء» كذلك لجديس وطسم قصة خلدها التاريخ، وأشارت لها مسميات المناطق التي سكنوها، وكل ما تعلق بتاريخهم: المشقر والخضرم واليمامة والشموس، عيون الماء والحصون والمنازل من الصخر وقلاعهم وأسواقهم.
« أبناؤنا حقولنا» رددتها الأم الثكلى من جديس التي احتكمت إلى الملك الظالم من طسم «عملوق» واشتكت على طليقها؛ حيث بدات شرارة الخلاف من هنا، فحكم الملك الظالم بأخذ الولد لخدمته فانكرا ذلك وهجته المرأة بشعر جعله يعاقب القبيلة كلها بأن تزف كل عروس إليه قبل زفافها لزوجها؛ وكي ينزعوا الذل عن أنفسهم كادوا له، وتوالت الأحداث في عبارات شعرية تحمل في مضمونها الحكمة..
«الحب بين دروب التيه يرشدكم
لا تيأسوا ابدا والحب يملؤكم
الحب ينقذكم»
شعرت لوهلة أنني على مدرج الكوليسيوم في روما.. وأن التاريخ تعانق على المسرح أمامي في مزيج سعودي إيطالي بديع، وبلغتنا العربية التي طربنا لها على حناجر فناني الأوبرا في سابقة لم تحدث من قبل.
قدمت هيئة المسرح والفنون الأدائية قصصا من الثقافة العربية والتراث العربي عبر العرض الفريد لزرقاء اليمامة، قدمته مواهب سعودية وعالمية، والذي ينتظر أن يحضر في جولات عالمية.
الأوبرا الأولى في العالم باللغة العربية التي أنتجتها المملكة، وشارك فيها خيران الزهراني وريماز عقبي وسوسن البهيتي، التي أدت للمرة الأولى عرضاً مسرحياً إضافة لادائها الاوبرالي المتميز، والتي كنت أقترح ان تكون حظيت بدور زرقاء اليمامة البطلة الرئيسية في العمل.
الرياض التي تشهد أعراسا ثقافية متلاحقة كانت منصة للاوبرا العربية التي ستنطلق، كما أشار في حديثه لي الأستاذ سلطان البازعي للعالم تتحدث عن تاريخ وحضارة هذه الأرض، وعمار يا وطن.