د. سامي بن عبدالله الدبيخي
إيماناً منا بأهمية البحث العلمي في موضوع المدن الذكية، أنجزنا بالتعاون مع زميلي أ. د. طاهر لدرع في قسم التخطيط العمراني بجامعة الملك سعود بحوثاً لقياس أبعاد ومؤشرات مدى تقدم مدينة الرياض في مسارها نحو التحول لمدينة ذكية ومستدامة. «تأثير رؤية 2030 كمحفز لمدينة الرياض في مسعاها لتصبح مدينة ذكية» كان هذا عنوان الدراسة التي تم نشرها في إحدى المجلات العلمية المحكَّمة المصنّفة في شبكة العلوم (ISI-WoS) باللغة الإنجليزية The Strategic Vision 2030 as a Catalyst for Riyadh Smart City Making وستليها قريباً -بإذن الله تعالى- ورقة أخرى معدة للنشر في مجلة عربية محكَّمة.
ما دفعنا لإجراء هذه الدراسة هو اتجاه كثير من المدن إلى اعتماد «نموذج المدن الذكية» لمواجهة التحديات العمرانية والتشغيلية التي تواجهها وتحسين كفاءة الخدمات والمرافق improve the efficiency of urban services، إلّا أنه في كثير من الحالات يتم اختزال مفهوم المدينة الذكية في مجرد تنمية وتطوير البنية التحتية المتقدمة لتقنيات تكنولوجيات المعلومات والاتصال ICTs وإنترنت الأشياء IoT أو ما يسمى بالجانب المادي الصلب، مع المغالاة في اللجوء للحلول التقنية وجمع البيانات. في حين أن الهدف الرئيس لأي مدينة ذكية أو عادية هو تحقيق «التنمية العمرانية الشاملة والمتوازنة» وتحفيز التحول الاجتماعي والنشاط الاقتصادي، وترقية جودة الحياة والرفاه الإنساني والاستدامة وهو ما يُعرف إجمالاً بالجانب الناعم.
وبالتالي فإنّه وفق هذا المنظور، فإنّ «المدينة الذكية» ليست غاية في حد ذاتها بل هي وسيلة لغاية. وغايتها تيسير تحقيق التحول لمجتمع المعرفة الذي تنعم جميع مكوناته وفئاته بجودة الحياة والاقتصاد المتنوع القائم على الإبداع المعرفي.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن الرياض كانت دائماً تتمتع ببنية تحتية تكنولوجية متطورة جداً (البنية الصلبة) إلا أنها لم تحقق نتائج متقدمة في مؤشرات المدن الذكية إلا بعد إطلاق رؤية 2030 وما صاحبها من برامج التحول الاجتماعي والتنوع الاقتصادي (القوة الناعمة) حيث قفزت فجأة إلى مصاف المدن العالمية الرائدة. وعلى هذا الأساس يؤكد تقرير معهد الإدارة والتنمية لمؤشرات المدن الذكية IMD Smart City Index 2023 أنّ الرياض كان أداؤها متميزاً على مختلف المؤشرات لدرجة أنها تفوقت على مدن عالمية مثل باريس وبرلين ومدريد لتحتل المرتبة الـ 11 بين مدن دول مجموعة العشرين الأغنى والأكثر تقدماً في العالم.
أما في مؤشر التنافسية الاقتصادية فيكفي ملاحظة أن الرياض حسّنت من ترتيبها العالمي 23 مرتبة في ظرف السنوات الثلاث الأخيرة فقط، وفي مؤشر النقل قلصت عدد الوفيات لكل مائة ألف من 28 إلى 13 وفاة بفعل تفعيل النظام الذكي لضبط حركة المرور (ساهر). أما بخصوص الاستدامة البيئية فتكفي الإشارة لبرنامج الرياض الخضراء الذي يستهدف رفع حصة الفرد من المساحات الخضراء من 1.75 إلى 28م2 وهو أكثر من ثلاثة أضعاف ما توصي به منظمة الصحة العالمية هذا فضلاً عن تصفير الانبعاثات الكربونية بحلول 2060.
نافلة القول إنّ الرياض تمكنت في وقت وجيز من تحقيق قفزات عملاقة في مختلف مؤشرات الأبعاد الستة للمدينة الذكية وهي (اقتصاد ذكي، بيئة ذكية، نقل ذكي، معيشة ذكية، سكان أذكياء، حوكمة ذكية) وقد أضيف إليها مؤخراً بعد (البيانات والأمن السيبراني) باعتباره صمام أمان لحماية مكتسبات المدينة الذكية من مخاطر الاختراقات والعبث بأنظمة شبكات المدينة الذكية. هذه الأبعاد لها مؤشرات لقياس كفاءة أداء المدينة لوظائفها.
من هنا فإن نموذج الرياض ملهمٌ على أكثر من صعيد لكثير من مدن العالم التي تسعى للتحول لمدينة ذكية بأن تهتم أولاً: بالجانب الناعم لديها والمتمثل في صياغة رؤية استراتيجية ووضع سياسات تحفز على التحول المجتمعي والتنوع الاقتصادي وبناء الرأسمال البشري، ثم تتبع ذلك بتطوير بنية تقنية متقدمة (الجانب الصلب) للتعامل مع البيانات الضخمة لترفع من كفاءة أداء وظائفها العمرانية ومستوى خدماتها العامة. وهذا يتوافق مع ما طرحه صاحب السمو الأمير الدكتور بندر بن عبدالله بن مشاري آل سعود مساعد وزير الداخلية لشؤون التقنية في المنتدى العالمي للمدن الذكية #»حياة أجود» حيث أكد سموه على أنّ «مفهوم المدن الذكية» ليس تقنية بحد ذاتها، وشراء التكنولوجيا بأنواعها، والبيانات مع أهميتها؛ لتحقيق المدينة الذكية، بل «نماذج» توجه المدينة تقوم عليها كفاءات مهنية ذكية في قطاعات تنموية مختلفة.