أ.د.عبدالله بن أحمد الفيفي
رُوي أنَّ (حُيَيَّ بن أَخْطَبَ النَّضْرِيَّ) خرج «حَتَّى أَتَى كَعْبَ بن أَسَدٍ القُرَظِيَّ، صَاحِبَ عَقْدِ بَنِي قُرَيْظَةَ وعَهْدِهِمْ، وكَانَ قد وَادَعَ رَسُولَ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، عَلَى قَوْمِهِ، وعَاقَدَهُ عَلَى ذَلِكَ وعَاهَدَهُ، فَلَمَّا سَمِعَ كَعْبٌ بِحُيَيِّ بن أَخْطَبَ أَغْلَقَ دُونَهُ بَابَ حِصْنِهِ، فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ، فَأَبَى أَنْ يَفْتَحَ لَهُ.» فدار بينهما هذا الحوار، الذي يصحُّ أن نُسمِّيه (حوار وَيْحَ)؛ لكثرة ما تردَّدت فيه هذه العبارة:
- «وَيْحَكَ، يَا كَعْبُ! افْتَحْ لِي!
- وَيْحكَ، يَا حُيَيُّ: إنَّكَ امْرُؤٌ مَشْؤومٌ! وإِنِّي قَدْ عَاهَدْتُ مُحَمَّدًا، فَلَسْتُ بِنَاقِضٍ مَا بَيْنِي وبَيْنَهُ، ولَمْ أَرَ مِنْهُ إلَّا وَفَاءً وصِدْقًا.
- وَيْحَكَ، افْتَحْ لِي أُكَلِّمْكَ!
- مَا أَنَا بِفَاعِلِ!
- واللهِ، إنْ أَغْلَقْتَ دُونِي إلَّا عَنْ جَشِيشَتِكَ، أَنْ آكُلَ مَعَكَ مِنْهَا!
فَأُحْفِظَ الرَّجُلُ(1)؛ فَفَتَحَ لَهُ، فَقَالَ:
- وَيْحَكَ، يَا كَعْبُ، جِئْتُكَ بِعِزِّ الدَّهْرِ وبِبَحْرٍ طَامٍ، جِئْتُكَ بِـ(قُرَيْشٍ) عَلَى قَادَتِهَا وسَادَتِهَا، حَتَّى أَنْزَلْتُهُمْ بِمُجْتَمَعِ الأَسْيَالِ مِنْ (رُومَةَ)، وبِـ(غَطَفَانَ) عَلَى قَادَتِهَا وسَادَتِهَا حَتَّى أَنْزَلْتُهُمْ بِذَنَبِ (نَقْمَى) إلَى جَانِبِ (أُحُدٍ)، قَدْ عَاهَدُونِي وعَاقَدُونِي عَلَى أَنْ لَا يَبْرَحُوا حَتَّى نَسْتَأْصِلَ (مُحَمَّدًا) ومَنْ مَعَهُ.
- جِئْتَنِي، واللهِ، بِذُلِّ الدَّهْرِ، وبِجَهَامٍ قَدْ هَرَاقَ مَاءَهُ، فَهُوَ يَرْعُدُ ويَبْرُقُ، لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، وَيْحَكَ، يَا حُيَيُّ! فَدَعْنِي ومَا أَنَا عَلَيْهِ، فَإِنِّي لَمْ أَرَ مِنْ مُحَمَّدٍ إلَّا صِدْقًا ووَفَاءً.
فَلَمْ يَزَلْ حُيَيٌّ بِكَعْبِ يَفْتِلُهُ فِي الذُّرْوَةِ والغَارِبِ، حَتَّى سَمَحَ لَهُ، عَلَى أَنْ أَعْطَاهُ عَهْدًا مِنْ اللهِ ومِيثَاقًا: لَئِنْ رَجَعَتْ قُرَيْشٌ وغَطَفَانُ، ولَمْ يُصِيبُوا مُحَمَّدًا أَنْ أَدْخُلَ مَعَكَ فِي حِصْنِكَ حَتَّى يُصِيبَنِي ما أَصَابَكَ. فَنَقَضَ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ عَهْدَهُ، وبَرِئَ مِمَّا كَانَ بَيْنَهُ وبَيْنَ رَسُولِ الله.»(2)
كذا ناوشنا (ذو القُروح) بحكاية (حُيَيٍّ وكعب) المشار إليها. قلتُ:
- فما جزاء من فعلَ ذلك؟!
- إنَّما نَكَب نفسه بنفسه. فاليهود أخربوا بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، ونالوا جزاء خياناتهم المتعاقبة؛ «فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِه». وما أشبه حِوار (حُيَيٍّ وكَعْبٍ) بالأمس بحِوارهما اليوم، متمثلَين في (الكيان الصهيوني المحتل) و(الولايات المتَّحدة القُرَظِيَّة)!
- قد يقال: هذه رواية المسلمين، وقد اختلقوها؛ إذ مَن كان يسجِّل حِوار حُيَيٍّ وكعب بتفاصيله المذكورة في «السِّيرة النبويَّة».
- وهذا تساؤلٌ مشروعٌ من الوجهة العِلميَّة. لكنَّه لا يُعْشِي الناظر عن خيانة هؤلاء، بقطع النظر عن التفاصيل؛ بدليل أنَّ مَن وَفَى بعهده من اليهود أو صالحَ، لم يمسسه سوء. وذلك مثل أهالي ما سُمِّي بمنطقة (الكتيبة) في (خيبر)، التي صالح أغلبُ آطامها الرسول، فأقامهم على أراضيهم، ولم يُمَسُّوا، هُم ولا مزارعهم ولا ذراريهم.(3)
- ما حدث، يا ذا القُروح، أنَّ هؤلاء الذين لجؤوا ذات فرارٍ إلى (الحِجاز)، وهم لا يمُتُّون إلى الحِجاز بصِلة، فارِّين من (الرُّومان) في (الشام)، فاستوطنوا في أحياء من أرض العَرَب، وبين ظهرانيِّ أرباب الأرض الأصليِّين، لم يحفظوا جميلًا، كنهجهم التاريخي، ولم يَرعوا جِوارًا، ولم يحترموا عهدًا، فنالوا جزاءهم، ثمَّ أُعيدوا من حيث جاؤوا، ما دامت تلك حالهم وذاك سلوكهم.
- أجل، فلقد جاء (محمَّد)، لا رسولًا فحسب، ولكن أيضًا محرِّرًا للعَرَب ولأرضهم من الاستيطان الأجنبي، ومن الاستعباد الفارسي أو الرُّوماني. والحقُّ أنَّ كلَّ منصفٍ يُدرِك سياسة اليهود الحمقاء في مواجهة المدِّ الإسلامي. فـ(بَنُو النَّضير)، مثلًا، لم يكفُّوا عن التآمر على المسلمين، بعد إجلائهم، بل عادوا إلى التآمر، فسعى زعيمهم (حُيَيُّ بن أخطب) ثانيةً، كما رأينا، للتغرير بـ(بني قُريظة)، الذين كانوا ما يزالون على معاهدة مع محمَّد، فحَمَلَهم على نقض تلك المعاهدة. ولمَّا حلَّ ببني قُريظة ما حلَّ بسالفيهم، بسبب نقضهم عهدهم هم أيضًا، ظهر التآمر مرَّةً أخرى في أهل (خيبر) للانقضاض على (المدينة)، للقضاء على المسلمين، وجعلوا يحرِّضون (قريشًا) و(غطفان) على ذلك.(4) وبعيدًا عن اختلاف الروايات الإسلاميَّة في أسباب ما حلَّ باليهود في الحِجاز، فسنَدَع الشهادة هنا لمؤرِّخٍ يهودي، هو (إسرائيل ولفنسون).
- إذن، دَعْ عنك المؤرِّخين المسلمين، وهات ما يقوله (ولفنسون)؛ فالحقُّ ما شهدت به الأعداء!
- يقول: «ينبغي أن لا يغيب عن البال أن الخسارة القليلة التي لحِقت يهود بلاد الحجاز ضئيلة بالقياس إلى الفائدة التي اكتسبها العنصر اليهودي من ظهور الإسلام، فقد أنقذَ الفاتحون المسلمون آلافًا من اليهود كانوا منتشرين في أقاليم الدولة الرُّوميَّة، وكانوا يقاسون ألوانًا من العذاب.»(5) ثمَّ يقول: «كان يهود يثرب يتشوَّقون لرؤية الرَّجُل الذي ينشر دعوةً دِينيَّةً تتفق في جوهرها مع عقائدهم، وكانوا يعتقدون أنَّ ظهور رَجُل ليس من بني إسرائيل يدعو إلى توحيد الإلَه وإلى تعاليم التوراة وإلى تمجيد إبراهيم وموسى إنَّما هو ظاهرةٌ غريبةٌ في التاريخ البَشري. ولا شكَّ أنهم سمعوا من مُصعب بن عُمير بعض الآيات القرآنيَّة، وأنه كان لهذه الآيات وقعٌ حَسَنٌ في نفوسهم جعلهم يؤمِّلون في هِجرة النبيِّ إلى يثرب آمالًا كِبارًا. ويظهر أنهم كانوا يعتقدون، أو على الأقل يرجون، أن يتمكَّنوا من التأثير فيه حتى يَدخُل في دِينهم، حيث يتعاونون على محو عبادة الأصنام، وقد يُحتمل أنهم كانوا يرجون أيضًا أن يتمكَّن الرسول من التأليف بين البطون اليثربيَّة وجعلها كُتلةً واحدةً تتعاون على النهوض بهذه المدينة التي كانت في حاجةٍ شديدةٍ إلى الهدوء والسكينة، وكانوا يعتقدون أنه لو تمَّ ذلك لأصبحت يثرب أعظم مركزٍ للتجارة في الجزيرة، ولتمكَّن أهلها من أن يضربوا تجارة مَكَّة وغيرها.»(6) واعترفَ في موضعٍ آخَر بأنَّ «الذي يلامون عليه بحق، والذي يؤلم كُلَّ مؤمن بإلَهٍ واحد، من اليهود والمسلمين على السواء، إنَّما هو تلك المحادثة التي جرت بين نفرٍ من اليهود وبين بني قريش الوثنيِّين، حيث فضَّل هؤلاء النفر من اليهود أديان قريش على دِين صاحب الرسالة الإسلاميَّة. نعم، إنَّ ضرورات الحروب أباحت للأُمم استعمال الحِيل والأكاذيب، والتوسُّل بالخدع والأضاليل للتغلُّب على العدو، ولكن مع هذا كان من واجب هؤلاء اليهود أن لا يتورَّطوا في مثل هذا الخطأ الفاحش، و أن لا يصرِّحوا أمام زعماء قريش، بأنَّ عبادة الأصنام أفضل من التوحيد الإسلامي، ولو أدَّى بهم الأمر إلى عدم إجابة مطلبهم؛ لأنَّ بني إسرائيل الذين كانوا مُدَّة قرونٍ حاملي راية التوحيد في العالم بين الأُمم الوثنيَّة باسم الآباء الأقدمين، والذين نُكِبوا بنكباتٍ لا تُحصَى، من تقتيلٍ واضطهادٍ بسبب إيمانهم بإلَهٍ واحد، في عصور شتَّى من الأدوار التاريخيَّة، كان من واجبهم أن يُضَحُّوا بحياهم وكلِّ عزيزٍ لديهم في سبيل أن يخذلوا المشركين. هذا فضلًا عن أنهم بالتجائهم إلى عَبَدة الأصنام إنَّما كانوا يحاربون أنفسهم بأنفسهم، ويُناقضون تعاليم التوراة، التي توصيهم بالنفور من أصحاب الأصنام والوقوف منهم موقف الخصومة.»(7) وينقل عن (البلاذري) ما يؤيِّد شكَّ بعض العلماء والمستشرقين في صِحَّة بعض الأحاديث التي تقول إنَّ البقية الباقية من اليهود في المدينة قد تمَّ جلاؤها عنها في حياة الرسول، قائلًا: «ويؤيِّد شَكَّهم ما وجدنا من رواياتٍ ونصوصٍ تاريخيَّةٍ تدلُّ على أنَّ الرسول كان يُعامل اليهود بعد غزوة خيبر بروح التسامح، حتى إنَّه أوصي عامله معاذ بن جبل (بأن لا يفتن اليهود عن يهوديَّتهم). وعلى هذا النحو عُومل يهود البحرَين؛ إذ لم يُكلَّفوا إلَّا بدفع الجِزية، وبَقُوا متمسِّكين بدِين آبائهم.»(8)
أ فمن يُنكر وقائع التاريخ، ولا ينظر إلَّا بعينٍ واحدة، هي عين أيديولوجيَّته، متجاهلًا سياقات الأحداث، التي يشهد بها كلُّ موضوعيٍّ منصف.. أ فمثل هذا يُحكِّم العقل، أو يستطيع تحكيمه؟!
**__**__**__**__**__**
(1) في الأصل: «فاحفظ الرجلَ». ولا معنى لهذا. وإنَّما الصواب ما أثبتناه، أي أنه اغتاظ من كلام حُيَيٍّ ففتح الباب. والغريب أن محقِّقي «السِّيرة» شرحوا كلمة «أُحفِظ» بمعناها الصحيح في الحاشية، وأثبتوها في المتن غَلَطًا، كما ضبطوا المبني للمجهول بعدها منصوب الآخِر!
(2) ابن هشام، عبدالمَلِك، (1955)، السِّيرة النبويَّة، تحقيق: مصطفى السَّقَّا وآخرَين، (مِصْر: مصطفى البابي الحلبي وشركاه)، 3: 220- 221.
(3) يُنظَر: ولفنسون، إسرائيل، (1927)، تاريخ اليهود في بلاد العَرَب في الجاهليَّة وصدر الإسلام، (القاهرة: لجنة التأليف والترجمة والنشر)، 174.
(4) يُنظَر: م.ن، 157- 000.
(5) م.ن، ي.
(6) م.ن، 110- 111. ويُنظَر عموم: الباب السادس من كتابه، 110- 140.
(7) م.ن، 142- 143.
(8) م.ن، 177.
** **
(العضو السابق بمجلس الشورى - الأستاذ بجامعة المَلِك سعود)