د. محمد بن عبد الله المشوح
في 10/22/ 1424هـ الموافق 17 ديسمبر 2002م أصدرت صحيفة «الجزيرة» ملفًّا ثقافيّا خاصًّا عن شيخنا العلامة الشَّيخ مُحَمَّد بن ناصر العبودي بمناسبة تكريمه في مهرجان الجنادريَّة بوصفه الشخصيَّة الثَّقافيَّة المكرمة في ذلك العام.
تَنادَى الكثير من أصدقاء الشَّيخ ومحبِّيه بالكتابة عن بعض ملامح سيرته وحياته، وكان ممَّن كتب في هذا الملف الَّذي طُبع ونشر؛ الأستاذ القدير والأديب الكبير أبو بندر عبدالرَّحمن بن فيصل المعمَّر -رَحِمَهُ اللهُ-.
فكتب مقالة مُكتملة الجمال والبيان مليئة بالأحداث والذكريات، عن شيخنا مُحَمَّد العبودي، وضمّن هذه المقالة بداية تعرفه على الشَّيخ عام (1380هـ)، واطِّلاعه على كتاب «ملوك آل سعود» الَّذي الَّفه الأمير سعود بن هذلول، وأثنى على الدَّور التَّحفيزيّ والمراجعة الدَّقيقة الَّتي قام بها الشَّيخ مُحَمَّد العبودي لهذا الكتاب، ومؤازرته للأمير وتشجيعه على الكتابة في هذا التَّاريخ وقال «سمعت باسم الشيخ محمد بن ناصر العبودي قبل أن أراه ورأيته قبل أن أقرأ له كان. ذلك عام 1380هـ بضاحية الملز يوم كان حي الملز في ضواحي الرياض كنا نسكن منزلاً متظاهراً مع منزل الشيخ صالح السليمان العمري - رحمه الله - كان منزل الشيخ العمري في تلك الأيام مقصداً لبعض القادمين. من رجالات القصيم في تلك الفترة رأيت «أبو ناصر» كان يشغل منصب مدير المعهد العلمي ببريدة - على ما أذكر- وقد ذكرني منظره ومظهره ومرآه لأول مرة باهتماماته بالتاريخ والعاديات والآثار ومسالك الديار.
ولما صدر كتاب تاريخ ملوك آل سعود» للأمير سعود بن هذلول. رحمه الله سارعت إلى شرائه وعكفت على مطالعته وتتبع محتواه بدقة وعناية أدركت بعدها ما للشيخ العبودي من دور في تقديم الكتاب والإشراف على طباعته وقبل ذلك حث الأمير المؤلف وتحفيزه على إخراج ما لديه من معلومات وعدم حبسها في الذاكرة والصدر، وهكذا يكون الجليس الصالح يعين صديقه على تدوين ما لديه من محفوظات وتداركها وعدم طيها أو تركها.»
ثمَّ تتبَّع في مقالته العديد من محطَّات الشَّيخ العبودي، ومنها كتاباته ومقالاته، وكذلك استماعه لحلقات كثيرة من البرنامج الَّذي كنت أقدمه مع الشَّيخ مُحَمَّد العبودي في إذاعة القرآن الكريم بعنوان «المسلمون في العالم؛ مشاهد ورحلات».
كما تطرَّق أبو بندر في هذه المقالة إلى اللِّقاءات الَّتي جمعته بالشَّيخ مُحَمَّد العبودي ومنها تلك الدعوة الَّتي وجَّهها إليه الشَّيخ المربي صالح بن سليمان العُمري -رَحِمَهُ اللهُ- في منزله بالطَّائف، ثمَّ دعاهم الأستاذ «أبو بندر» كذلك في منزله، وحضر المشايخ؛ الشَّيخ صالح العُمري، والشَّيخ مُحَمَّد العبودي في ضيافته فأكرمهم وابتهج بهم، وأثنى على تلك الجلسة الطويلة الممتدَّة، الَّتي تناوب فيها الحديث على العديد من الجوانب الأدبيَّة والثَّقافيَّة وقال: «صادف أن اصطاف المرحوم الشيخ صالح السليمان العمري بدار له بمنطقة زراعية بين الطائف والحوية تسمى (القيم) فسعيت للسلام عليه والجلوس بين يديه ودعوته لقبول دعوتي وتشريف منزلي وقد تلطف رحمه الله فطيّب خاطري ولبى واستجاب ومن حسن حظى أن كان الشيخ العبودي حاضراً فسرني بموافقته ومرافقته للشيخ صالح وكانت ليلة أدبية وجلسة طائفية لا تنسى كان محييها وقائد سفينتها ومجربها أبو ناصر وحسبك به متحدث مدره وراوية محيط يحسن إدارة دقة الحديث».
أسهب الأستاذ عبدالرَّحمن في حديثه عن محطَّات الشَّيخ مُحَمَّد العبودي الَّتي يعرفها جيِّدًا متتبِّعًا المراحل والمحطات العلميَّة والعمليَّة الَّتي مرَّ بها مثنياً مشيداً ذاكراً لها.
كانت هذه إشارة إلى العلاقة الوطيدة الَّتي تربط أبا بندر بشيخنا العلامة مُحَمَّد العبودي، وكان هذا رحماً ممتداً في علاقتي معه، فانبثقت من تلك العلاقة ومن تلك المقالة تواصل دائمٌ معه، فكان يفاجئني في كل لحظة باتِّصاله وسؤاله، إمَّا على مقالة، وِإشادة كما هي عادته في تشجيع أبنائه وتلاميذه، أو على إصدار جديد من كتب الشَّيخ مُحَمَّد العبودي والقيام بها من دار الثلوثية.
وكان متابعاً للإصدارات، محفِّزاً للمؤلِّفين، شاهدًا على المراحل الَّتي مرَّت بها بلادنا، وكذلك له نظرة ثاقبة في نقده وفي تتبُّعه لما يصدر ويُكتب.
ومن المواقف أنه في يوم (2020/7/9م) الموافق (18 / 11 / 1441هـ)، كتبت تغريدة عن أستاذنا الأديب الكبير عبد الرحمن بن فيصل المعمر، أشرت فيها إلى اللقاء الذي أجرته قناة «روتانا» في برنامج «وينك؟»، وتحدث فيه الأستاذ عبد الرحمن بن فيصل المعمر عن محطات حياته وعن تجاربه وكتاباته ومؤلفاته وأعماله ومسؤولياته، وكانت رحلة جميلة تنقل فيها بين محطات حياته المتنوعة.
حيث بشّر بأنه يعكف على تدوين سيرته وحياته، وأن ذلك يقوم به نجله البار الأخ الأستاذ بندر المعمر، وأشرتُ إلى أن هذه بشرى جميلة للمثقفين والمهتمين .
وبعدها تلقيت اتصالاً من ابنه الأستاذ الكريم الفاضل بندر بن عبد الرحمن بن فيصل المعمر، شكرني فيها على كلامي عن والده وتحدثنا طويلاً في مكالمة عن بعض الجوانب المتعلقة بوالده، وأخبرني بأنهم يقومون بالتسجيل معه، ويتركونه يتحدث عن جوانب معينة بلا توقف، وأن هذه هي المرحلة الأولى، ثم تأتي المرحلة الثانية وهي التفريغ لهذه التسجيلات، ومن ثم تدوين السيرة. ولا شك أن هذه طريقة رائعة جداً، وهي أنه يتحدث بعفويته وسجيته بلا قيد أو شرط عن محطات حياته.
وطلبت من الأستاذ بندر بأن يُعطوا والده الفرصة لأن يتحدث عن كل شيء.
الأستاذ عبد الرحمن المعمر معروف بأنه يتصف بصفتين مهمتين وهما؛ الجرأة، والصراحة.
ومن هنا فإن الناس تتشوق إلى سماع بعض محطات حياته التي لا شك - سوف يكون فيها العديد من المفاصل والأحداث الصريحة والجريئة.
تحدثت مع الأستاذ بندر المعمر أيضاً، وقال لي: إن والده يكتب رثائيات كثيرة، وأشدت فيها بكلمته ورثائه في الدكتور عبد الرحمن الشبيلي - رحمه الله، وأيضاً برثائه للأمير بندر بن عبدالعزيز، ثم أسهبت مع الأستاذ بندر عن والده وقلت: إنَّ من أمتع اللحظات التي جلست فيها مع والده في (2017م)، عندما ترافقنا سوياً في حضور ملتقى دارين» والذي أقامه نادي المنطقة الشرقية بدعوة من رئيسه الدكتور محمد بن عبد الله بودي، وحديثه عن صديقه الأديب الأستاذ الكبير اللغوي أحمد عبد الغفور عطار، وقال: إنه ارتبط معه بعلاقة التلميذ مع شيخه وأستاذه، وتحدث لي عن بدايات علاقته مع أحمد عبد الغفور عطار، وعن بعض المناوشات والمعارك التي كانت لأحمد عبد الغفور عطار مع بعض الشخصيات العلمية، وعلى رأسهم الشيخ العلامة حمد الجاسر رحمهم الله جميعاً.
تتابعت اللِّقاءات، واستمرت العلاقة مع هذا الأديب الكبير؛ الاستاذ عبدالرَّحمن المعمَّر، ثمَّ في السَّنوات الأخيرة كانت أمنية لي أن أحظى بتكريمه والاحتفاء به في ثلوثيَّة مُحَمَّد المشوِّح، وكنت أطلب منه هذا الأمر، لكنَّه كعادته يتمنَّع ويرفض، لأنَّ أبا بندر بعيد عن الإعلام، ولا يرغب في المجالس الَّتي ينصبُّ فيها المديح عليه، فهو زاهد في ذلك كله، ولكنَّني تحت إلحاح منِّي وتكرار في كلِّ اتِّصال أو لقاء وجدتُ منه شيئاً من الارتياح، لكنَّه لم يصدر الموافقة.
فاستعنت بعد الله -عَزَّ وَجَلَّ- بنجله البارّ المثقَّف والأديب الأستاذ بندر المعمَّر، وقلت له: إنَّ إحدى أمنياتي في هذه الثلوثيَّة أن أستضيف والده، وآمل أن تحقِّق أمنيتي.
فرد عليَّ مباشرة بأنَّني سأسعى -بإذن الله تعالى- بتحقيق هذا الطَّلب، ثمَّ بعدها بأيَّام ردَّ بالموافقة، فكانت فرحة كبرى فحدَّدنا يوماَ للاحتفاء به، وكان ذلك مساء الثلاثاء؛ (24/ صفر/ 1444هـ)، الموافق20 سبتمبر 2022م) بحضور عدد كبير من المثقَّفين والأدباء والإعلاميِّين؛ حيث إنَّ للشَّيخ عبدالرَّحمن المعمَّر حضوراً ثقافياً كبيراً وقديماً وممتدَّاً؛ فقد عمل رئيساً للتَّحرير لجريدة الجزيرة في الثَّمانينيات الهجريَّة، ثمَّ تعاقبت مسؤولياته الثَّقافيَّة والأدبيَّة، ومارس الكتابة والتَّأليف في عدد من الكتب المطبوعة والمنشورة له.
وقد تحدث الشَّيخ عبدالرَّحمن المعمَّر عن نشأته مع والده في الطائف ثم علاقته مع ابن عمه ووالد زوجته الأمير الشَّيخ عبدالعزيز بن فهد المعمَّر -رَحِمَهُ اللهُ-؛ حيث قدِم الشَّيخ عبدالرَّحمن إلى الطَّائف من سدوس الَّتي وُلِد فيها وعمره لا يتجاوز ست سنوات.
وقال عبدالرَّحمن المعمَّر: إنَّ طفولتي وشبابي وذكرياتي كلّها عشتها في الطَّائف، وجمعتني بأعلام وأدباء كبار كانوا يتوافدون على الطَّائف في الصَّيف، وكانت الطَّائف ملتقىً لرجالات الدَّولة وزوَّارها وعدد من المثقَّفين والأدباء.
ثمَّ أشار إلى عمله والتحاقه برئاسة مجلس الوزراء في عهد الملك سعود إبَّان ولاية الملك فيصل للعهد، بعد ذلك تحدَّث عن زملائه في العمل في رئاسة مجلس الوزراء كالشَّيخ عبدالعزيز الرِّفاعي، والشَّيخ عبدالله كامل؛ والد الشَّيخ صالح كامل، والدُّكتور مُحَمَّد السّميح وغيرهم من الشخصيات الأخرى.
كما تحدَّث عن رئاسته لصحيفة الجزيرة، وبعض المصاعب الَّتي كانت في تلك الفترة، والَّتي عايشها، ومن ضمنها التحوّل إلى صحافة الأفراد آنذاك، وشهوده مع الأستاذ أحمد عبدالغفور عطَّار؛ الَّذي كانت له علاقة لصيقة به، وقال: إنَّ أحمد عبدالغفور عطَّار شخصيَّة مستقلة، لا يفرض عليه أحد الرَّأي، سريع البديهة، حاضر الرَّد والجواب، وهو حادٌّ في بعض تصرُّفاته وأقواله.
وقال المحتفى به: إنَّ علاقته بأحمد عبدالغفور عطَّار امتدَّت سنوات طويلة حتَّى أصبح من الملازمين والملاصقين له.
لقد كان حضوراً مشهوداً من الأدباء ومن المثقَّفين ومن محبِّي هذا الأديب الكبير ريحانة الطَّائف وعصبة الأدباء وهذا الرجل الَّذي ينعش مجلسه بكلِّ فائدة تسمعها.
كانت حقاً ليلة جميلة رائعة حيث انساحت ذكريات أبي بندر عبر محطَّاتِ نشأته في الطَّائف وولادته في سدوس، ومراحل ومحطَّات عمله في تونس ودمشق وفي غيرها، حتَّى حطَّ رحاله عودة إلى وطنه وبلده المَملكَة العربيَّة السُّعوديَّة.
لم يكن الحديث حديثاً عاديّاً، بل كان مملوءاً بكلِّ الذكريات الماتعة الَّتي عاشها في الطَّائف مع النُّخبة الكبرى من الروَّاد من أدباء ومثقَّفي الحجاز في مثل؛ أحمد عبدالغفور عطَّار، وعبدالعزيز الرِّفاعي، وعبدالقدُّوس الأنصاري، وغيرهم من الشَّخصيَّات الَّتي لم تكن علاقته علاقة عاديَّة معهم، بل كانت علاقة وثيقة.
وحين يتحدَّث عبدالرَّحمن المعمَّر عن أحمد عبدالغفور عطَّار فإنَّك تجد الغرائب والعجائب والنَّوادر الَّتي لو جُمعت لكانت في مجلَّد ضخم، فهو الصديق الحفي به، يحفظ أخباره، ويسرد مواقفه بكلِّ دقَّة، وتجد عند عبدالرَّحمن المعمَّر ما لا يعرفه حتَّى أبناء أحمد عبدالغفور عطَّار من المواقف والأحداث الثَّقافيَّة.
لم يكن أحمد عبدالغفور عطَّار عاديّاً كذلك حينما اصطفى هذا الأديب الكبير ليكون الخُلَّص من أصدقائه، وأقرب النَّاس إليه، بل لم يكتفِ بذلك، فكان أن أوصى أحمد عبدالغفور عطَّار ورثته وأبناءه بأن يعودوا إلى عبدالرَّحمن المعمَّر في كل أمر يلم بهم، سواء يتعلَّق بكتبه ومؤلَّفاته، أو بأمورِ ورثته وتركته، وهذا غاية في النُّبل واللُّحمة والصَّداقة والمودَّة الَّتي ربطت هذين الكبيرين بعضهما ببعض.
ومن المواقف التي أذكرها أنه دعانا رحمه الله يوم السبت 1445/4/27هـ بمناسبة زيارة الصديق الدكتور عصام الهجاري، وكان الحضور لفيفاَ من الأصدقاء الدكتور عبدالله المنيف وبعض الأصدقاء وأمتعنا كعادته بملحه وطرائفه وقصصه مع أحمد عبدالغفور عطار ومنها رحلتهما إلى المدينة المنورة وغيرها.
ومعروف عن أبي بندر حبه للطرائف الجميلة واستشهاده بالأبيات الشعرية في مواضعها اللائقة وهو رجل لماح فطن يلتقط العبارة واللفظ وفهم المراد بسرعة مذهلة ومن حبه للملح والطرائف أنه علم أن عند شيخنا محمد العبودي عن «العيّارين» في بريدة فألح على الشيخ بسرعة إخراجه.
وكان يرى دوماَ الابتسامة غائبة عن كثير من الوجوه فيحاول نشرها وبعثها.
وحين أصدرت المجلة الثقافية في جريدة الجزيرة ملفاً خاصاً عني بادر رحمه الله إلى الكتابة بعنوان «محمد المشوح والجبهة الثقافية» ومنحني الكثير من التشجيع والكلمات الكبرى التي أعتز بها ومن قامة أدبية واجتماعية وثقافية كأبي بندر.
ومن اللطائف أنه اتصل ذات يوم وأخبرني بأن أحد الإخوة وأورد اسمه لي وقال هل تعرفه قلت نعم.
قال إنه استعار مني كتاب «بين السجن والمنفى» لأحمد عبدالغفور عطار وهي نسخة ثمينة جداً لأن فيها إهداء المؤلف وقد استعارها هذا الشخص مني قبل أكثر من ثلاثين عاماً وفي كل اتصال أطلب منه إعادة الكتاب ويعدني ولا يفي بوعده، فوعدته بأني سوف أتواصل مع هذا الرجل وأطلب منه إعادة الكتاب وفعلاً اتصلت به وأوردت له شكوى أبي بندر من هذه المماطلة في إرجاع الكتاب فوعد بأنه سوف يرسله لي فاتصلت بأبي بندر وأخبرته، ففرح بذلك لكنه استدرك وقال لن يحضر إليك فهو مراوغ وقد وعدني عدة مرات، فقلت ننتظر.
ثم جاء الغد واعتذر ذلك الشخص وصدق حدس أبي بندر.
فأعدت الاتصال على المستعير وشددت في لهجتي عليه وقلت أعد الكتاب ولا عذر لك ثم قال سوف أذهب بالكتاب إلى أبي بندر فقلت له أصدق هذه المرة فوعد خيراً.
فأخبرت أبي بندر بذلك فقال لا أريد أن أراه وعليه أن يرسله مع سائق فأعاد الكتاب مع السائق، وشكرني أبي بندر على هذه الشفاعة في الكتاب.
ومن حقه أن يتشدد على هذه النسخة حيث كتب أحمد عبدالغفور عطار عليها هذا الإهداء «أحمد عبدالغفور عطار يهدي أعز كتاب من مؤلفاته لديه إلى أعز صديق الأستاذ عبدالرحمن المعمر مع التحية والمودة والاحترام الموافق 1408/7/16هـ»
لقد عاش أبي بندر حياة حافلة غير تقليدية لكنه يذهب في فضائها في كل اتجاه.
ومن جميل ما كتبه في مقدمته لكتابه «المضيفات والممرضات في الشعر المعاصر» وهي مقدمة تكشف طريقته في الحياة.
واصفاً طريقته في التأليف التي تنبعث فكرة ثم تتطور إلى كتاب «هذا الذي بين أيديكم هو في الأصل محاضرة تطورت وتدرجت فأصبحت كتيباً فكتاباً، وتنوعت طبعاته وتعددت أماكن إصداره. بدأ كراسة صغيرة لا تتجاوز العشرين صفحة أصدرها النادي الأدبي في الطائف بعيد تلك المحاضرة التي ألقيتها بنفس العنوان: المضيفات والممرضات في الشعر المعاصر»، وذلك يوم الثلاثاء ليلة الأربعاء 24 ذو القعدة 1396هـ الموافق 16 تشرين الثاني / نوفمبر 1976م في مبنى النادي القديم الكائن بحي قروى إبان رئاسة الأستاذ حمد الزيد لمجلس إدارته. وفي عام 1978م صدر عن دار ثقيف للنشر والتأليف التي أسستها مع الأستاذ الكبير عبد العزيز الرفاعي رحمه الله، في الطائف عام 1976م، وتجاوزت صفحاته الخمسين صفحة بعد إضافات وزيادات، وعند هجرتي الأولى إلى تونس صدرت منه طبعة تونسية خاصة عن دار بوسلامة للطبع والنشر والتوزيع لصاحبها المرحوم الأستاذ علي بوسلامة، كما صدرت طبعة أخرى عن دار ثقيف، ثم كانت هجرتي الثانية إلى الشام فصدرت النسخة الشامية في عام 1997م عن دار المعارف بحمص لصاحبها الأستاذ نصر الدين فارس وقاربت صفحات تلك الطبعة الثمانين صفحة. ثم عاد إلى الطائف حيث أصدره النادي الأدبي عند تولي الأستاذ حماد السالمي رئاسته في العام 2010م ووسمت تلك الطبعة بالرابعة وهي غير ذلك، وكنت أحرص مع كل طبعة على إضافة ما يتوفر من ردود ومقالات حول الكتاب مع أنني فقدت بعضاً منها مثل مقال للأستاذ ناصر الدين النشاشيبي نشره في مجلة الشرقية، ومقال آخر للأستاذ عرفان نظام الدين نشره في جريدة الحياة. وبعد أن استقر بي النوى وألقيت عصا التسيار، ونفد ما بقي لدي من نسخ، رأيت أن أصدر هذه الطبعة لتكون مدققة وموثقة. وهكذا ترى أن هذا الكتاب حلق وطوف بين البلاد، وبعد ست طبعات عدداً تكون هذه هي الطبعة السابعة عن دار جداول. وهذا اللبس في عدد الطبعات سببه عدم اهتمامي بالتوثيق فأنا من عصبة الأدباء الذين يتركون الأمور في حياتهم تسير».
كانت له نظرة خاصة قد لا يشاركه أحد فيها تجاه الحياة والناس والأدب والعقل يدركها من جالسه وخالطه ولكنه لم يكن صدامياً مع الآخرين في آرائه التي يومن بها.
عاش مستقلاً في رأيه وفكره وهذا التفكير لم يحظ بالقبول التام من بعض الفئات وكانت له آراء خاصة يميل فيها إلى الفكر والفلسفة في الحياة نحو المرأة والمال والعقل والحرية والعروبة وغير ذلك.
لكنه في ذات الوقت عاش متصالحاً مع الجميع قريباً منهم ولكنه له صحبته ورفقته الذين يأنس بهم والذين وصفهم ابنه بندر بأنه مات وهو راضٍ عنهم».
ومن صفاته المثلى الحميدة وفاؤه مع خلانه وأصدقائه فلا يتردد في كتابة رثاء أو إشادة في كل موضع يستدعي ذلك.
ومن محطات الفقيد المهمة تأسيسه لدار ثقيف في الطائف مع الشيخ عبدالعزيز الرفاعي ومحمد الزايدي عام 1396هـ واستمرت حتى وفاة الشيخ عبدالعزيز الرفاعي حيث أصيب بصدمة كما يقول وأصبت بحالة من الاكتئاب لأنه «الأب الروحي لي فاعتزلت الحياة».
كما أصدر مجلة عالم الكتب وهو بذلك من أوائل الناشرين السعوديين وإني آمل أن يتم عقد ندوة عنه خلال معرض الكتاب القادم.
ومن المحطَّات الَّتي عشتها مع أبي بندر -رَحِمَهُ اللهُ- أنَّه كنَّا نزوره في جلسته الأسبوعيَّة الَّتي خصَّصها فور انتقاله إلى الرِّياض، وبدأ التَّعب يَظهر عليه، فكان يأنس بأصدقائه ومحبِّيه وتلامذته الَّذين يعودونه يوم الثلاثاء، وكان آخرها في رمضان الماضي؛ حيث عدناه واستقبلنا بالبشاشة وترحابه، وكان يأبى ويرفض أن يسلِّم على أحد وهو جالس، وكان يقف على عكَّازه وعصاه مرحِّباً بالجميع، باسمه ولقبه وكنيته، وذلك غاية في الاحترام والتَّقدير للجميع.
وكان رحمه الله حفيًّا بابنه بندر، شاكراَ له صنيعه وبره، راضياَ عنه، وهذه هي والله الغنيمة الكبرى الَّتي أهنِّئ فيها صديقي الأستاذ بندر، وهي أنَّ والده -رَحِمَهُ اللهُ- كان يثني عليه في كلِّ مجلس على بره وصلته وعنايته واهتمامه، وهذا من توفيق الله -عَزَّ وَجَلَّ-.
الحديث عن الفقيد أبي بندر حديث طويل، يمتدَّ ويتَّسع، لكنني لا أملك في ختام هذه الكلمة الموجزة إلَّا أن أبتهل إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يغفر له ويرحمه ويتجاوز، ويرزق أهله وذويه الصَّبر والسُّلوان.
وأخص منهم صديقي البار الموفَّق الأستاذ بندر الَّذي هو شعلة من النَّشاط الثَّقافي، ومرجع في تاريخ الوطن، ويحفظ من أخباره وأحداثه ما لا يوجد عند غيره، فهنيئاَ له هذه المعرفة الثَّقافيَّة التَّاريخيَّة الَّتي أُكرِّر عليه أن يبدأ بتدوين بعضها، ونشر بعض المعلومات، وإن كان ينشر بعضها في جريدة الشَّرق الأوسط وغيرها من الصُّحف.
أسأل الله أن يغفر لأستاذنا الكبير أبي بندر، ويسكنه فسيح جنَّاته.