سهام القحطاني
«لكل مقام مقال» ما ننتهي إليه هو في الأصل المبتدأ.
أيهما أسبق الكلام أو النظام اللغوي؟ ولو طبقنا السؤال على العرب، سنجد أن الكلام سبق النظام اللغوي عند العرب، فتأسيس قواعد النحو لم يُعرف إلا نهاية عصر الخلفاء الراشدين للمحافظة على صحة قراءة القرآن الكريم، وقد اعتمد ذلك التقعيد في عمومه على النموذج الشفهي الحيّ «كلام العرب»، لكن ما حدث بعد الانتهاء من التقعيد ظهور بعض الخلل في القواعد الرئيسة، والذي كان يعلل لها سيبويه «بسعة الكلام»، وهو ما انبنى عليه فيما بعد «التأويل» فالموقف الاتصالي يتحكم في حركة اللفظ وفق تأثير الموقف التواصلي سواء للمتكلم كقصديّة أولية لنشأة فعل الكلام أو لحالة المخاطب مراعاة لقصديته المحتملة لتحقيق الإفهام رفع اللبس عن ما يُمكن من وقوع الخطأ في قصديته، وهذا الرفع هو الذي يحمي القصدية من أحادية القطع من خلال حيل التأويل.
وأجمل ما قيل في هذه الحيل الحاصلة من صراع الموقف التواصلي بيتان لأبي الحسن حازم القرطاجنيّ يستحضر خلالهما الخلاف النحوي الذي وقع بين سيبويه و الكسائي.
والعرب قد تحذف الأخبار بعد إذا
إذا عنت فجأة الأمر الذي دهما
وربما نصبوا بالحال بعد إذا
وربما رفعوا من بعدها ربما
ويذهب ابن هشام في مغني اللبيب في الجزء الثاني أن المتكلم هو حامل للحقيقة باعتباره صانع الفعل الكلامي بالنسبة للقصدية الذاتية وليس الغيرية لأن المخاطب يظل له حق تقرير اختيار المراد من فهم قصدية المتكلّم ليتوافق مع تلك القصدية أو يختار دلالة أخرى لتلك القصدية وفق فهمه، ولذا يرى أن تقدير دلالة الجملة ما بين الخبرية أو إنشائية ليست بقرار قصدية المتكلّم بل بقرار فهم المخاطب وإفهامه. «ومن الجمل ما يحتمل الإنشائية والخبرية فيختلف الحكم باختلاف التقدير»-ت محمد محيي الدين-
وبعض شذوذ قواعد النحو، قصدية الخطاب ومزاجية السياق حيناً أو وفق ما اقتضى ترتيب اللفظ في النفس كما عند الجرجاني.
ومن أبرز مظاهر التجاوز النحوي أو اللغوي من باب التفسير التواصلي القائم على القصدية الخطابية المبدأ الشهير للعرب «يجوز للشعراء ما يجوز لغيرهم» وهذه الغيرية المباحة بسبب كون الشعر مواقف تواصلية تستلزم حالة الشاعر والمستمع إليه؛ باعتباره المُنشئ لقصدية الموقف تواصلياً في ذات الحالة الشعرية وحاصلها.
يرى علماء اللسانيات أن «الكلمة» لا تمثل قوة إنجاز إلا من خلال سياق يجمع بين قصدية -القضية-المتكلم وقصدية الإفهام-القضية- عند المخاطب أو كما تسميها السيميولوجيا «الإرسالية، والإرسالية الرجعية».
ويقول عبدالقاهر الجرجاني في هذا المقام إن الكلمة لا تمثل قوة تأثير إلا من خلال التأليف، والذي يحولها إلى دلالة «كلام» «إخباراً و أمراً واستخباراً وتعجباً وتؤدي في الجملة كمعنى من المعاني التي لا سبيل إلى إفادتها إلا بضم كلمة إلى كلمة وبناء لفظة على لفظة»-دلائل الإعجاز-.
والتقاطع في القضية بين ركني الإرسالية تعني مؤشرا لغياب تساوي التداولية القصدية بين ركني تلك الإرسالية، ولعل قصة مطلع قصيدة جريرة المادحة لعبد الملك بن مروان، هوخير مثال على ذلك التفاطع.
أتصحو أم فؤادك غير صاح
عشية هم صحبك بالرواح
فرد عليه عبد الملك بن مروان «بل أنت فؤادك غير صالح.
وتمثل نظرية النظم عند عبدالقاهر الجرجاني في كتابه «دلائل الإعجاز» سبقاً نظرياً في التواصلية بشقيها السيميولوجي والتداولي.
وتعتمد النظرية على طرفي الرسالة المتكلم والمخاطب، فلا تكتمل قصدية المتكلم إلا بفهم المخاطب، ولذا فالجرجاني يوفر الحدود الآمنة للمتكلم في عملية الكلام لإنجاح الموقف التواصلي بينه وبين المخاطب، ومن خلال ضبط قصدية المتكلم في استخدام مراتب التعبير النحوي ومستوياتها.
فكمال المعنى وما يحقق له من فصاحة لا يعتمد على اللفظة «مقطوعة مرفوعة من الكلام الذي هي فيه ولكنّ توجيهاً لها موصولة بغيرها ومعلقة معناها بمعنى ما يليها».
كما أشار الجرجاني إلى القصدية النفسية للمتكلم أثناء إنشاء فعل الكلام من خلال كفايته اللغوية في فهمه الخاص لقصديته من خلال تعبيره اللغوي المرتبط بقضية القصدية فيقول: «لأنك تقتفي في نظمها آثار المعاني وترتبها على حسب ترتيب المعاني في النفس، فهو إذن نظم يعتبر حال المنظوم بعضه مع بعض، وليس هو النظم الذي معناه ضم الشيء إلى الشيء كيف جاء واتفق».
وهنا الجرجاني يفرق بين النظم في مساره البنيوي «نظام اللغة» والنظم في مساره الخطابي كموقف تواصلي، ومن نافلة القول بأن كل خطاب هو نظام لغوي، وليس كل نظام لغوي هو خطاب.