د. شاهر النهاري
الخبر الأكيد أن البدر قد رحل، والتفاعلات صواريخ تنطلق من الألسن إلى شبكات الإنترنت، والصور تتكرر وتتجدد، والمقاطع تبرز، وكثرة من يعزون تدهش، ومن يبكون، ومن يتباكون ويدعون وصلاً فلكياً بالبدر، ولو كان مجرد وقفة مصادفة التقطت فيها صورة سناب، ومقطع لم يثبت في مخيلة الراحل، ولكن الأنفس تتباين مطامحها.
لا بد أن رحيله قد حفر في قلوب أهله وذويه وأعز أصدقائه وأجفانهم ممرات ملح وحزن، ولا شك أنهم قد عاشوا الصدمة، رغم توعك صحته مؤخراً، ولكن المحبين، لا يكادون يرون الواقع بسهولة، والبعض سيمرون في حالة إنكار تباعد، تجعله حاضرا بينهم لفترات، بأصابع بديعه يطرق أبواب حزنهم.
البدر مثل سميه السماوي، يظل يجذب ويجهر العين، لا يحرق البشرة، ولا يلهب درجات حرارة الصيف، فيظل يمر مرور الغيمات الناعسة، بتدرج وجوه منازل القمر، يتناقص، ثم يعود من الجانب الآخر مرات ومرات، بدر ومهما رحل، يصبح مزاراً لكواكب الأدباء، وشهب النقاد، وصحوة أفق نيازك المتذوقين، بدلالات حصول الفن الأصيل والعمق والحيوية والفلسفة، والعشق، والناس سيتعودون حضوره في غيابه، ويتصفحون بياضه وسط صفاء مرور الغيوم، ويترقبون ملامحه المتخيلة المكملة للوحة تاريخه، ولو بلحن عابر، فلعله يعود هلالا جديدا بينهم.
غريب هذا البدر الأديب الأريب، والذي جمع أطراف الشعر الشعبي، وساعد على نقاء أناقته، وقربه من الأذن، ورفعه إلى درجات علية، ليكون قريبا جدا للشعر المقفى الفصيح، مما ساعد في وضع أسس الشعر الحديث، بكلمة ساحرة، ونبضة تتراقص وسط الحروف، ولا تحتاج لأكثر من فنان موسيقى، يلبسها اللحن، وصوت شجي يعبر عن عمق معانيها، ويبرز محاسنها، وأسبقيتها.
كثير غيري سيكتب عن جماليات كلماته، ورقتها، وقربها من القلب، وحماس كلماته الوطنية وعمقها ومفصليتها وبقائها، ولذلك فأنا اليوم أريد أن أهرب من الزحام، وأضيئ على جانب معتم في منازل البدر.
في قصيدته أستبد: أستبد أحيان.. استمد كل هذا الظلم من ألمي.. أتحد من رأسي لقدمي وأضرب بعواصفي وبزلزالي.. وأهّدم الناس.. واهدّم بحالي.. لين أسترد بعض أثيابي من الريح.. ولحمي من الشوك.. وأبتعد.. أبتعد.
هنا، نجد صورا من قسوة وغضب، وكلمات تعبر عن النفس، التي تضج بالقيود، وتتمنى أن تسود، ولو كان في أضيق الحدود، بمحاولات تحطيم القيود، ودك حصون الصمت.
في قصيدته أنتِ الي وحدك لي:
كل الحرير اللي في الأرض.. ما يلمس الجلد.. وكل الرخام.. ما تاطى القدم.. والعطر.. ما طال النسم.. حبيبتي.. وأغلى الجواهر جيد.. وكثر الذهب.. والغيد.. انتِ اللي وحدك لي.. حبيبتي تغار.. والدر في المحار.. والمحار في اليم.
وهنا نشعر بروح البدر لإنسان يحلم، ويعاند، ويحوز المنا بمخيلته، التي تعرف الصعوبات، ولكنها تظل بصمتها وتتحدى بأحجياتها، وهذا عكس ما عرفناه في الظاهر عن حياة البدر.
وفي قصيدة الدواير:
يا رامي الماء.. بالحصا.. لأجل الدواير تكبر.. لا توجع الماء أكثر.. هـذي حدود الـماء.
يجيبك الهاجوس.. ويروح بك.. يا شـين وش نفع الحكي.. لا روح بك.. تخط فالرمل البحر.. وترزّ عودك.. ساريه.. وتبقـى الحقيقه.. عاريه.
ضرب آخر من الغموض والرمز، الذي يحكي بعكس الظاهر، وتلك جوانب من وجوه البدر، ليس من السهل تخطيها، ولا بد من دراسات تتناول غموض زواياها بقرب من الحياة القريبة له، وبمعرفة طبيعة مشاعره وأسراره، وما كان يدعوه لذلك البوح المعتم وبمكنون لا يظهر.
وكثير من أغنياته أيضاً كانت تحتوي حياة غربة وشتات، وضيق قد لا تكون متناسقة مع حياته المتنعمة البادية للجميع، فنجد في قصيدة زمان الصمت:
وترحل.. صرختي.. وتذبل.. في وادي لا صدى يوصل.. ولا باقي انين.
زمان الصمت يا عمر الحزن والشكوه
يا خطوه ما غدت تقوى.. على الخطوه
على هم السنين.
فهل هذا هو نفس الشاعر المغروس وسط تلذذه بالألحان العذبة، وتلون الأضواء ومنتهى الوضوح؟
وفي أغنية عندك أمل:
عندك أمل عندك.. محتاج أمل.. عندك.. يا فرح عمره ما اكتمل.. يا جرح عمره ما اندمل.. محتاج أمل منك يكون.. طاغي الخطى.. دافي العيون.
وهنا تظهر لنا الحيرة عند مصارعة البدر للغيوم.
وفي أغنية جمرة غضى:
أضمها حيل..
أبي الدفا.. لو تحترق كفي.. وأبي سفر لليل..
بردان أنا تكفى.. أبي احترق بدفا.. لعيونك التحنان.. فعيونك المنفى
جيتك من الإعصار.. جفني المطر والنار.
وهنا يصعب التمعن في وهج وجوه البدر، فالحزن أصيل غامض، والرغبة في الوصل أكيدة، ولكنها تحترق بنيرانها.
ونجد في قصيدة أرفض المسافة:
أرفض المسافة والسور والباب والحارس.. آه أنا الجالس ورى ظهر النهار ينفض غبار ذكرى.. أرفض يكون الانتظار بكرا.. أبسقي عطش قلبي اليابس على شفاهي وأقول أحبك.
كلمات غزل ظاهري، وسريالية تحتاج للتفسير، ومعرفة تداعياتها، وهل هي مجرد خيالات شاعر مجنون، أو أنها ذات قواعد حزن عميق يتربع في قلب طفولي.
وفي رماد المصابيح:
اللي انطفت فالريح.. جيتك أنا وقلبي. ومن سهاد المواويل وباقي قصيد الليل.. جيتك قمر دربي.. فيني تعب لا والله أكثر.. حالي صعب لا والله أكثر.
وفي الخريف: أوراقك الصفراء خريف.. والضحكه الصفراء خريف.. ملت مواعيد الوله قلبك دله.. وقف النزيف.
وقصائد أخرى عجيبة مثل على الميهاف، وموت وميلاد، وحسايف، أمثلة على أشعار الغموض والحزن والغضب، الذي لا يملك أن ينطق، ويحتاج لمفاتيح اللغات والأحجيات، وكم أتمنى أن يكون لنا مستقبلا وقفات لمناقشة كل زاوية من ذلك، لنتمكن من النظر مرات ومرات أخرى في أوجه البدر المتعددة، بعيدا عن وجوه الرومانسية، والوطنية، والخفة، والطرب، والغزل، والشعور بالجمال وتقديره، فلا يلهينا ما فيها من جماليات وحسن، ولا ننسى أن هنالك قلب شاعر مكلوم، غامض الحيرة، عاش سبعة عقود ونصف يحاول البوح بأسرار عاشها، ونحن للأسف لم نتذكر ذلك إلا بعد رحيله الحزين، متدثرين بشعورنا بالتقصير حيال تعدد منازله الغامضة.