سليم السوطاني
عندما نقرأ في كتب التراث المهتمة بالنقد، نجد قاعدة منتشرة في أوساط النقاد ورواة الشعر؛ وهي قاعدة الأفضلية، وعلو شاعر على آخر! وقد يبالغون في هذا الأمر حتى تخرج الأفضلية عن الذائقة، ويصبح الموضوع بعيدًا عن المنطقية يَماسُّ انتصار الرأي على الآخر. وقد استمرت هذه القاعدة على مرِّ العصور الأدبية، حتى وصلت إلى عصرنا الحاضر.
التساؤلات التي تُطرح في هذا الجانب:
* لماذا يلجأ الناقد إلى تحديد الأفضلية؟ أو: ما الذي يدفعه إلى ذلك؟
* وما المقاييس التي استند إليها في الحكم بأفضلية شاعر على آخر؟
* وعلى أي شيء تعتمد هذه القاعدة؟
الشيء الذي يحيرني –بصفتي محبًا للشعر- أن الإبداع لا سقف له، وتحديدًا في الشعر الذي يعتمد على موهبة فطرية، وشيءٍ خفيٍّ داخل الشاعر يدفعه دفعًا إلى قول الشعر.
ربما نجد شاعرًا مقلًّا لم يقل إلا نتفة، لكنّ نظمه يكون في غاية الإبداع، وكذلك ربما نجد شاعرًا مبدعًا في زمنه، إلا أن رواة الشعر تجاهلوا رواية شعره؛ لسبب ما!
أتفهَّم لو قلنا: «الشاعر الأكثر شهرة على مر العصور... الأكثر معرفة من قبل جمهور الشعر». ربما هذا الأمر يكون مقبولًا من وجهة نظري، لكنني أرى في عصرنا الحالي، ومن بعض علماء اللُّغة والأدب، عبر منصات التواصل الاجتماعي، تحديد الأفضلية؛ بل إن بعضهم رتب الشعراء وقدّم وأخّر، من دون إيراد حجة منطقية، فإذا طُلب منه إيراد الحجة والبراهين ليقنع المتلقي بهذا الترتيب يقول: إنه رأيه وذائقته، لكنه ينكص في أقوال أخرى، ويحط من شعراء آخرين، ويقلل من أحقيتهم عند الفريق الآخر الذي يرى عكس ما يراه!
من وجهة نظري، إن أي ترتيب لشعراء، غير مبني على مقاييس نقدية واضحة، أعُدُّه تجنيًا على الشعر والذائقة الأدبية، وقبل ذلك فيه ظلم للشعراء وللإبداع.
من حق أي إنسان أن يفضل شاعرًا على آخر، ويرتب بحسب ذائقته، لكن ليس من حق النقاد وعلماء اللُّغة -في عصرنا الحالي- أن يروّجوا لهذه القاعدة، وأن يريد كل ناقد أن يصادق الناس على مفاضلته بين الشعراء وترتيبه منازلهم، ولم يكن ترتيبه مبنيًا إلا على ذائقته فقطّ! بل إنني أرى هذا الأمر خطرًا على الإبداع والشعر؛ إذ لو أمّن جمهور الشعر على هذا الأمر، وركنوا إلى ذلك المبدأ في الحكم، فسيغفل المتتبع للشعر كثيرًا من الشعراء والأبيات، لمجرد أنه مشى خلف هذا الناقد، واكتفى بالقراءة للشعراء الذين ضمتهم قائمته!
المتذوق للشعر، عندما يقرأ في دواوين الشعر الفصيح، يجد لذةً واكتسابَ مفردات لغوية ومعانيَ جديدة... ويتعرف على كثير من أشكال الوصف البديع، وجموح خيال الشعراء الذين صنعوا صورهم الشعرية المركبة والبسيطة، وأساليبهم الفنية والتعبيرية.
الشعر باب كبير من المعرفة؛ معرفة أحوال الزمان، وطبائع المجتمعات، وكيف كانت حياتهم، وحتى تفكيرهم يعد أسلوب حياة، عندما لم يكن إلا هو المنبرَ الوحيد الذي يصف الديار، ويصور الجَمال، ويعبّر عن مشاعر الحب والشوق والفرح، والحزن والغضب والثورة، ويؤرخ لعصره، فيصف تقلبات الزمان أو الحروب، بأرقى الأساليب الفنية التعبيرية التي استقطبت أسماع المجتمع جيلًا بعد جيل، وحركت مشاعرهم، وغازلت أذواقهم.
الشعر نقل إلينا حيوات أمم كثيرة، وأخبار عصور مختلفة، وما من شاعر إلا وعنده بعض الضعف في إحدى قصائده، وهذه سمة الإبداع، وهو أمر طبيعي، ولا سيما في بدايات أي شاعر.
الشعر فن عظيم، لذا يجب ألا يوضع له إطار معين، أو يحدد بأفضلية تقتصر على أفراد، وقاعدة تُخرِج من الشاعرية أو من ذاكرة المجتمع كثيرًا من الشعراء الذين عرفهم الناس من خلال كتب التراث.