عبدالله العولقي
لا يختلف المعجم اللغوي لديوان الشاعر التونسي الشهير أبي القاسم الشابي كثيراً عن غيره من شعراء الرومانسية العرب، خصوصاً الرعيل الأول الذين تأثروا برياح المذهب الجديد كمدرسة أبولو الذي يعتبر الشابي أحد أقطابها الكبار، لا شك أن الشابي ظاهرة إبداعية جديرة بالدراسة والبحث، فهي شعلة من العبقرية التي انطفأت مبكراً وهي في ريعان الشباب، فعلى الرغم من كل هذا الزخم الأدبي الذي أحدثه الشابي في أدبيات الثقافة العربية شاعراً وناثراً إلا أنه قد توفي وهو في السادسة والعشرين من عمره، مثله في ذلك مثل الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد البكري، فيحسب له السرعة الزمنية في قدرته على هضم التيار الرومانسي، فقد استطاعت هذه العبقرية الصارخة أن تحجز لها مكاناً في عمق الذاكرة الأدبية العربية، فلا تزال أبياته الخالدة أيقونة استدعاء ثقافي، كقوله:
النور في قلبي وبين جوانحي
فعلام أخشى السير في الظلماء
وإذا عدنا بنظرة سريعة تجاه المعجم اللغوي لديوان الشاعر لوجدنا ظاهرة (ثنائية التفاؤل/ التشاؤم) إن صح التعبير، فمثلاً نجد: الصباح/ المساء، العدل/ القهر، الفجر/ المغيب، الورد/ الشوك، الغناء/ البكاء،الحياة/ الموت، وهكذا:
خذ الحياة كما جاءتك مبتسماً
في كفها الغار أو في كفها العدم
وارقص على الورد والأشواك متئداً
غنت لك الطير أو غنت لك الرجم
صحيح أن هذه الثنائيات المتضادة تعتبر ظاهرة في الأدب الرومانسي، بيد أنها في حالة الشابي تعبر عن حالة مرضية نفسية، فمن خلال هذه الثنائيات المتضادة قد نستشف شيئاً من الاضطراب النفسي الذي كان يعانيه الشابي في حياته اليومية، وحتى تتضح الصورة سنتحدث عن خمسة عوامل نفسية أثرت في شخصية الشاعر الشاب، فمثلاً نجد ارتباطه القوي بوالده، الشخصية الدينية القوية والذي كان يعمل في مهنة القضاء، هذا التعلق الفطري الذي يكنه الشاب تجاه والده نجده صريحاً في رثائياته الباكية:
ما كنت أحسب بعد دفنك يا أبي
ومشاعري عمياء بالأحزان
أني سأظمأ للحياة وأحتسي
من نهرها المتوهج النشوان
وأعود للدينا بقلب خافق
للحب والأفراح والأحزان
ويبدو أن الفاجعة بهذا الفقد قد بلغت ذروتها في قوله:
يا موت قد مزقت صدري
وقصمت بالأرزاء ظهري
وفجعتني فيمن أحب
ومن إليه أبث سري
وأعده فجري الجميل
إذا ادلهم عليَ دهري
فالموت الذي اختطف والده من بين يديه خلق في نفسه ألماً وحسرة، وأصاب قلبه بألم الفقد والتيه، وتعد هذه الحادثة أولى الحادثات اللواتي أحدثن الاضطراب النفسي في روح الشاعر، فهذه الفاجعة قد تركت أثراً سلبياً عميقاً في روح الشابي لدرجة تكراره لخطابه المباشر مع الموت:
إن كنت تطلبني فهات
الكأس أشربها بصبر
يا موت، نفسي ملت الدنيا
فهل لم يأتي دوري؟
فمرض الاكتئاب النفسي الذي ربما عانى منه الشاعر كثيراً، قد حول كيانه النفسي إلى شخصية تشاؤمية بحتة، هذا الأمر قد نستشفه من عناوين قصائده: أنا كئيب، سئمت الليالي وأوجاعها، صبي الحياة الشقي العنيد، في جبال الهموم أنبت أغصاني، وهكذا، فالنظرة التشاؤمية تأخذه إلى نفي السعادة واستحالة بلوغها:
ترجو السعادة يا قلبي ولو وجدت
في الكون لم يشتعل حزن ولا ألم
ولا استحالت حياة الناس أجمعها
وزلزلت هاته الأكوان والظلم
كما تأخذه أيضاً إلى نفي العدالة:
يقولون صوت المستذلين خافت
وسمع طغاة الأرض أطرش أصخم
وفي قوله:
الويل في الدنيا التي في شرعها
فأس الطعام كريشة الرسام
وهذه الحالة قد نجدها بوضوح في قصيدة فلسفة الثعبان المقدس والتي سنتناولها في مقال آخر إن شاء الله تعالى، ما يهمنا الآن هو حالة الاضطراب النفسي الذي نجدها في تباين آرائه حول مفاهيم الحياة، فتارة ينفي السعادة عن قلبه ثم يطلبها، وتارة ينفي وجود العدالة في الأرض ثم تعود له روح التفاؤل فيعيد إقامتها، وما أقصده أن اضطرابه النفسي انعكس على شعره الذي جاء مضطرباً في الفكرة والمعنى.
وقد كانت وصية الأب لابنه أن يتزوج من ابنة عمه، لكن الشاعر الحساس كان يجد في صدره ألماً لا يكاد يفارقه، وبعد سلسلة من الكشوفات والفحوصات الطبية اتضح للأطباء أن الشابي يعاني قصوراً في عضلة القلب، فنصحوه بعدم الجهد والانفعال، فكان المرض هو ثاني الأزمات النفسية التي عانى منها الشاعر، ولمعرفة الأطباء بشخصية الشاعر وحساسيته المفرطة فقد نصحوه ألا يتزوج، لا سيما في هذه المرحلة الحرجة، كما نصحوه أن يتجنب كتابة الشعر لأنها تسبب له شيئاً من الانفعال النفسي الذي يرهق قلبه الضعيف، فكانت هذه النصائح الثقيلة على روح الشاعر الثائر هي ثالث تلك الأزمات، لكن الشاعر المتمرد لم يرضخ للأطباء، فتزوج من ابنة عمه إرضاء لوصية والده، وشرع يكتب بحماسه المتدفق وكأنه يتحدى هؤلاء الأطباء بينما في الواقع لم يكن يتحدى إلا صحته ونفسه:
والشقي الشقي من كان مثلي
في حساسيتي ورقة نفسي
الأمر الآخر الذي يتعلق بثقافة الشابي وأدبه هو تأثر الجلي بأدب وكتابات عملاق الفكر العربي عباس محمود العقاد، وهذا الأثر وإن لم يصرح به الشابي مباشرة إلا أن استقصاء هذا الأثر واضح من خلال أمرين، نظري وتطبيق، النظري من خلال محاضرته الشهيرة حول الشعر العربي، والتي يظهر فيها فكر ورأي العقاد حول الشعر والذي أودعه في كتابه الشهير الديوان، وكان بمثابة خروج عن مدرسة الشعر التقليدية التي كانت قد ابتدأت في أواخر القرن التاسع عشر على يدي كوكبة من كبار الشعر كمحمود سامي البارودي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم، وقد كتب العقاد كتابات نقدية جريئة حول تلك المدرسة نلمح أثرها بوضوح في محاضرة الشابي النثرية حول مفهوم الشعر، الأمر الآخر الذي يتعلق باثر العقاد في ثقافة الشابي هو في تمرده حول مفهوم الشعر كتطبيق، فديوان الشابي يزخر بفكر المدارس الرومانسية التي ثارت على الكلاسيكية الأدبية العربية كمدرسة الديوان وأبولو والمهجر.
هذا التمرد الأدبي كان يتعلق من عدة جوانب، منها الشخصية الذاتية أو الأنا الرومانسية، فقد أبدع الشابي في هذا المجال بصورة ابتكارية جميلة، فلم يجعل الأنا تطغى على مشهد الصورة الشعرية بهيئة النرجسية الطاغية في قلب المتلقي وإنما حولها إلى صورة جميلة محببة إلى نفس القارئ، وهذا الأنا موجودة في جميع قصائد وديوان الشاعر، وهذا أمر طبيعي لدى شعراء التيار الرومانسي.
أما المعاناة الرابعة التي أتعبت قلب الشابي فهي ظروفه المعيشية الصعبة، خصوصاً بعد زواجه ومجيئ الأطفال إلى حياته الزوجية، فقد كان الشاعر المتمرد يعيش على مبدأ الحرية، ويرى أن قيود الوظيفة تتعارض مع حرية الشاعر، فآثر أن يعيش حياة الزهد والكفاف، فانعكس ذلك على طبيعة حياته المعيشية، وتشكل صورته التشاؤمية التي تعج بها قصائده في ديوانه.
نعود إلى قضية التمرد في روح الشابي، وتبدأ بواكير هذا التمرد تجاه بيئته الدينية، فهو من أسرة دينية محافظة في المجتمع التونسي، فأبوه وجده قد شغلا مهنة القضاء في عدة مدن تونسية، إلا أن الشاعر قد شق طريقاً مغايراً للأسرة، وبدأ تمرده العنيف يصطدم مع واقع العادات والتقاليد الثقافية في المجتمع، وهنا نتحدث عن المعاناة الخامسة التي أثقلت قلب الشابي المريض، لكن شخصيته العنيدة كانت تتصدى لجميع محاولات عدوله عن أفكاره وألفاظه المتمردة على المعجم اللفظي الديني في الثقافة التونسية.
وفي هذه القصيدة جاءت الرومانسية الغزلية فيضاً عابراً من المعاني الجميلة، وقد بدأ الشابي قصيدته بتشبيهات تراتبية جميلة استعمل فيها تكرارية لحرف الكاف التشبيهي:
عذبة أنت كالطفولة كالأحلام كاللحن كالصباح الجديد
كالسماء الضحوك كالليلة القمراء كالورد كابتسام الوليد
هذه التراتبية التخيلية الاستحالة رسمها الشاعر بخياله الإبداعي ليشكلها في هذه الافتتاحية بكل هذه الصور التشبيهية الجميلة والتي يغلب عليها الطابع الفطري، هنا عودة الرومانسية للفطرة الغريزية التي تحدث عنها المفكر الفرنسي جان جاك روسو، والذي يعتبر أبو الرومانسية الحديثة، والتي يظهر تأثر أبي القاسم الشابي بكتاباته النفسية التي تخاطب الفطرة والعودة إلى الطبيعة الإنسانية الأولى، ليصل إلى ذروة الإبداع الفني في قوله:
أنت، ما أنت؟، رسم جميل عبقري
من فن هذه الوجود
فيك ما فيه من غمض وعمق
وجمال مقدس معبود
وفي هذه القصيدة تذوب الأنا في الأنت، على غير قصائد الشابي الأخرى، فالآخر المحبوب الذي يرمز له كثيراً بضمير الخطاب (أنت)، ليكرر هذا الضمير بصورة مكثفة داخل هيكل القصيدة:
أنت .. أنت الحياة في قدسها السامي
وفي سحرها الشجي الفريد
أنت.. أنت الحياة في رقة الفجر
وفي رونق الربيع الوليد
فيستغرق الشاعر في خطابه لمحبوبته الملائكية البعيدة عن واقع الصورة البشرية حتى تصل الأنت إلى ذروتها التمجيدية في صور التشبيه الاستحالي:
أنت فوق الخيال والشعر والفن
وفوق النهى وفوق الحدود