د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
(1)
الصورة: (إنسانٌ عابرٌ في شارع خلفيّ)
---
دقت الساعةُ..
فلنصغِ إلى عنوانِ نشرةْ..
جاء فيها:
ربما لا تعرفُ الأعينُ معنىً غيرَ عَبرةْ
ربما لا تدركُ الأفواهُ طعمًا غيرَ كِسرةْ
ربما لا ترسمُ الأيامُ لونًا غير َ حسرةْ
هاهنا التفصيلُ:
لا يدري عن الأحلام إلا طيفَ فكرةْ
وانزوى يسأله العابرُ من أنت؟
أجاب: العمرُ سُخرة
ليس إلا اللهُ مَن ندعوه كي يجلوَ عثرةْ
* *
(2)
لا يستطيعُ جمعَ أجزاءِ الصورة إلا ما بقيَ من ملامحِ رجلٍ ضئيلِ الجسم في زاويةٍ قصيةٍ بمنزلٍ طينيٍ متواضعٍ لا يكادُ يُسمعُ غيرُ أنينِه، ويذكرُ أنه رافق والده أكثر من مرةٍ إليه، ثم انقطعت الزياراتُ، وفهم دون أن يُفَهَّمَ أن المَزُوْرَ قد مات، رحمه الله، و لم يكن الموتُ ذا شأنٍ لديه؛ فإدراكُه لا يتجاوزُ ما يراه أمامه، وحين توفي جدُّه (علي بن تركي التركي العمرو - 12 رمضان 1385هـ) رحمه الله وسأل والدته حفظها الله عنه بعدما افتقد فراشه الذي ينام عليه في منزلهم أجابته: (غدا)، وتعني: مضى، ولعلها من مفردات ذلك الزمن تلطيفًا لحكاية الفقدِ المُرّ.
لم يكن ذلك الرجلُ الذي تكررت زيارتُه غيرَ موظفٍ صغيرٍ بدرجة «فرّاش» بمصطلح إدارة ذلك الوقت، وأدرك لاحقًا أن والده رحمه الله الذي عمل سائقًا في جدة، وساعد والدَه في سقيا الأثل، لم يتبدلْ بعدما أكمل الدراسة الجامعية قبل ستين عامًا (1385هـ)؛ فظلَّ أصدقاؤه - وفيهم من لم يدخل مدرسةً ولا يجيد القراءة ولا الكتابة - هم رفاقَ دوريتِه الليلية ورحلاتِه البرية، ووعى الدرسَ الأهمَّ؛ فالناسُ بنَصَبهم لا مناصبهم، وبتعاملهم لا أعمالهم، وبمواقفهم لا مواقعهم.
وحين ذهب مع والدته إلى المستوصف العام، ووالدُه مسافر، طلبت الصيدليةُ مبلغ «سبعة ريالات واثني عشر قرشًا» ولم تكن معها حينها فدفعها رجلٌ فاضل كان يعمل مستخدمًا في المستوصف، ولم ينس الصبيُّ ذو الأعوام الثمانية الحكاية فذكَّر والدته بها بعد حين، ولم تتذكر، ربما لأنها أو والدَه سددا المبلغَ وقتها، وبحثتُ عنه بعدما كبرتُ ولم يتذكرْ أيضًا، ووعيتُ منه أن المروءةَ لا يختص بها المُوسرُ، والكرم لا يسمو به القادر.
وكان الوالد - وهو أستاذ النحو والبلاغة المرموق- يتولى فتحَ دكان أخيه الأكبر العم عثمان - رحمهما الله- والبيعَ له عند سفره كي لا تتعطلَ مصالحُه؛ فصباحُه مع سيبويه والجرجاني، ومساؤُه مع الأرز والشاي، ووعيتُ مجلسَ أستاذنا عبدالرحمن البطحي رحمه الله وهو يضمُّ المتعلمَ والعاملَ والعالمَ والوجيهَ والوزيرَ والفقيرَ من غير ترتيبٍ لأماكنِ جلوسِهم فيتصدرُ من حضر أولًا، ويتأخرُ من جاءَ بعده؛ فلا لقبَ ولا نشَب، ولا عِرْقَ ولا فرق.
لا ينسى - في صباه المبكر- عمّال البلدية بملابسهم السعودية وهم يمرون بسكك عنيزة الترابية لينظفوها بأدواتهم البدائية، والوالدة تهيءُ لهم الشاي والإفطار لأتولى تقديمها لهم قرب باب البيت فيفترشون الأرض في جلسة قصيرة لا تتجاوز بضع دقائق، ولم يدم الحال طويلًا حين استبدل بهم عمالٌ آخرون من جنسياتٍ أخرى.
ولن ينسى أن أعمال الصرف الصحي، وكانت يدويةً، نُفِّذت بأيدٍ سعوديةٍ، كما كان البنَّاؤون والسباكون والكهربائيون والجزارون وبائعو البرسيم والخضار والأرزاق سعوديين من أبناء المدينة نفسها، ولا يذكر - في تلك المرحلة المبكرة - إلا عاملًا واحدًا غيرَ مواطنٍ كان يطوف بالحارات مناديًا من يحتاج لإصلاح «أجهزة الإضاءة «الأتاريك» والطبخ «الدوافير» وما جرى مجراهما.
* *
(3)
الطبقةُ العاملةُ الكادحةُ هي منطلقُ البناء والعطاء، وأكاد أقول: والوفاء والانتماء، ومن يعبرُ في شوارعنا ويرى عمال النظافة البسطاء، وهم يسبقوننا في تقديم التحيات إلينا مبتسمين، يدرك حجمَ النقاء الذي يسكنهم بالرغم من بؤسهم وغربتهم وتجاهل الأكثرين لهم غيرَ معنيين بما يُمنحون أو يُمنعون، وبخاصةٍ أن التعليمات الرسمية تؤكدُ على عدم إعطائهم شيئًا ضمانًا لانتظام الخدمة بصورةٍ متوازنةٍ للجميع.
كذا عهدنا حياةَ الكادحين النائيةَ عن المظهرية، والراضون بواقعهم سعداءُ أكثر من ذوي النَّشب الراكضين خلفَ الأضواء لتلمحَهم عدسةٌ، أو يخفَّ إليهم مستقبلون.
عاش جيلُنا مع هؤلاء البسطاء فأحبَّهم، وسعى إليهم، وقدَّم بعضُنا زيارتَهم على زيارة الوجهاء والأثرياء، وهل يصحُّ تجاهلُ من شقُوا على أبواب مدارسنا، ومن أجل تنظيف شوارعنا، وخدمة منازلنا، وأذكرُ - فيمن كانوا يُسمون مستخدمين في المدارس والجامعة والهيئات الحكومية والأهلية - من عانقوا في أخيلتنا مواقعَ المديرين والعمداء والوزراء، واحتفظنا بذاكرة وفاءٍ لهم، وربما لم نحتفظ للآخرين إلا من عرفناه بشخصه وتعامله لا بعمله وعلاقاته.
* *
(4)
حين جئتُ إلى الرياض للدراسة الجامعية، وعمري سبع عشرة سنة وسكنتُ مع ثلاثة أصدقاء في بيت طينيٍ متواضع بحي سويدي الخزان خلف دار الكتب الوطنية سابقًا، ألِفتُ شخصين خارج البيت؛ أحدهما شيخٌ كبير في السن من أهالي سدير يجلس عند باب منزله أصيلَ كلِّ يوم فيفسح لي مكانًا عند عتبة داره، وأتبادل معه الحديث، ويقصُّ عليَّ بعض الحكايات، ويشرح ما يمرُّ بخاطره من أمثال، وأغلب ظني أنه من مركز «حَرمة» ومن أسرة المدلج الكريمة، أما الثاني فشقيقٌ يمنيٌ اسمه الأول: علي، ولا أعرف الباقي، وكان صاحبَ مغسلةِ ملابس، وعاملني معاملة خاصة فأنجزَ غسيل ملابسي وكيَّها عاجلًا وأخذ مني أجرةَ العاديّ، وربما قدَّرَ وضع الطالب الماديّ والنفسيّ من غير أن يستفسرَ أو أقول؛ فالمكافأةُ ثلاث مئة وعشرون ريالًا، ومستلزمات استئجار البيت والأكل والشرب والتنظيف مقسومةٌ أرباعًا، ولولا ما كان يبعثه الوالد رحمه الله من إعاناتٍ نقديةٍ شهرية لما استطعتُ مواجهةَ أعباءِ الحياة في تلك السن المبكرة.
لم تكن ثمة هواتفُ لنتواصلَ مع الطيبين أمثالهما، ولم يكن لديَّ وعيٌ بمتغيرات الحياة كي أحفظ أسماءَهم وعناوينهم الدائمة، وقد عدتُ للحيِّ والأحياء التي سكنَّاها في الرياض لعلني أجدُ أثرًا من آثارهم فلم ألقَ طللًا، وأذكر سيدةً كريمةً كبيرةً في العمر في حلة ابن نصار- الذي سكنتُه بعد سويدي الخزّان - تمتلك دكانًا صغيرًا أشبهَ «بالبسطة»، وعاملتني معاملة أمٍ؛ فقد وعت اغترابَ شابٍ في الثامنة عشرة، وكفاني حينها الكلامُ الجميلُ والدعاءُ الصادق، وسبق أنْ كتبتُ عن عزمي على قطع الدراسة والعودة إلى عنيزة إذ لم تنشأ بيني وبين العزوبية وشيجةُ صلةٍ جيدة، ولولا اللهُ ثم هؤلاء، والداعمون المعنويُّون الذين أعطوني دروسًا في الصبر والتحمل لنفَّذتُ قراري وعدتُ أدراجي، ولم يعدُ أبو فراس الحمداني الحقيقةَ حين قال:
أيحلو لمن لا صبرَ يُنجدُه صبرُ
إذا ما انقضى فكرٌ ألمَّ به فكرُ؟
كانت الإجازة الأسبوعية أولَ أيامنا في الجامعة يومًا واحدًا في الأسبوع، وهو يوم الجمعة، ولم أكن أمتلك سيارةً، ولا أودُّ الغياب، وأنعم الله علينا برئيسِ مراقبين حازمٍ وطيبٍ في الوقت نفسه، وهو الأستاذ عثمان بن محمد النجران التويجري (أبو أحمد) - من أهالي المجمعة - وحين أرتادُ مكتبه للاستئذان يرفض في البداية، فأستنجد بلهجتي القصيمية: (أويلاه يا بو أحمد) - وهي بمعنى تكفى، وربما اشتقت من «آه- ويلاه» إذا لم تلبِّ طلبي، وتقال عند اشتداد الرغبة والحاجة إلى تنفيذ أمر - فيصدُّني حينًا ويستجيب حينًا، وكنا نلجأُ إليه للخروج المؤقت بساعة أو ساعتين كذلك؛ إذ كان بابُ الكلية موصدًا في تلك الأيام ويقف على حراسته إنسانٌ طيبٌ لا يقبلُ شفاعةً أو إلحاحًا ما لم تسندْها الورقةُ المختومة التي يُمضيها العم أبو أحمد النجران، رحمه الله والعمّ جمعان حارسَ الكلية.
ولعل جِماع هذه الحكايات، وفي الذهن أكثرُ منها، العنايةُ بالنَّائين عن الأضواء، وتقديرُ جهودهم، والسعيُ لإبرازها كي لا يقتعدوا الأماكن المنزوية في العمل الرسميِّ والمكانة الأقلَّ في التقدير المجتمعيِّ، ومن الأهمِّ كذلك الاهتمامُ بالشباب والصغار من جانب آخرَ؛ فذواكرُهم سوف تستعيدُ الإحسانَ ولن تنسى الإساءات، وسيحتفُون بمن وقف معهم وساندهم، ومن وثّقوا الجَمال والجمائلَ تناقلوها عن صنّاعِها بالمشافهة وإن لم يحتفِ بها الإعلام، ولم يُعدّوا ضمن الأَعلام.
* *
(5)
يُعدُّ الأساتذة فهد المارك وعبدالكريم الجهيمان ومحمد العبودي - رحمهم الله- من أبرز الرواد النجديين الذين أسهموا في تسجيل بعض الحكايات الشعبية عن المتوارين والمتواريات عبر مؤلفاتهم في «الشيم والأساطير والأمثال»، غير أن الشيخ العبودي أربى على جهودهم بتخصيص مؤلفات مستقلة عن بعض شخصيات مدينة بريدة الشعبيين التي احتوتها الذاكرةُ الشِّفاهيةُ، ومنهم: الملا ابن سيف ( عبدالمحسن السيف)، وقُنَيّ ( عبدالكريم العبيد) ومطوع اللّسيب (عبدالكريم المحيميد)، وحْمِدة (حمد الصقعبي) وآخرون، كما أن معاجم أسر القصيم: بريدة وعنيزة والرس - وقد صدرت في سبعة وخمسين جزءًا- ومعجم البكيرية - تحت الإصدار- ضمت توثيقًا شموليًا نادرًا لمن وردت أسماؤهم في المعاجم، وفي بعضها معلومات عن الكبار الذين لم يُشهرهم التأريخ.
وثمة سعيٌ يستحق الإشادة يقومُ به اللواء الدكتور محمد بن عبدالله المرعول حول تتبع حكايات «الهامش - المتن» عبر توقيعات مطولة ينشرها في منصة «X» تحت عنوان «حكايالوجيا»، وتَعرضُ حياة شخصياتٍ من عنيزة عاش معظمُها في الظل، وأثق أن في المناطق والمدن والقرى الأخرى من وثقَ شخصياتها الظِّلية، وآن أن تُنشرَ على الملأ فقد مللنا سيرَ المشاهير.
الحياةُ شمسٌ وظِلال.